علي الوردي ونظريَّة ابن خلدون

ثقافة 2023/04/12
...

 عادل الصويري


يرى عالم الاجتماع الراحل الدكتور علي الوردي، أنَّ ابن خلدون ثار على الفلسفات القديمة، وبشكل خاص على أرسطو. وهو بذلك يقف بالضد من رؤية البروفيسور محسن مهدي، الذي أصدر عام 1957 كتاباً باللغة الانكليزية؛ درس فيه الناحيتين الفلسفيَّة والمنطقيَّة في نظرية ابن خلدون، وأشار فيه إلى أنَّ ابن خلدون في نظريته الاجتماعية، جرى على مبادئ أفلاطون وأرسطو.

ولم ينكر الوردي حضور المصطلحات التي استخدمها الفلاسفة القدامى، إلا أنَّ ذلك لا يعني الاندماج الكامل بقياسات منطق القدماء، ودليله في ذلك أنّه لو كان سار على ما سار عليه القدماء؛ لما قدم في نظريته الاجتماعيَّة شيئاً جديداً.

إنَّ أكثر مشاكلنا الثقافيَّة والفكريَّة، سواء كان زمنها بالماضي، أو بالزمن الحالي؛ تكمن في الانبهار الانفعالي بالآخر. هذا الانبهار يتحول شيئاً فشيئاً، إلى حالة من جلد الذات التي لا تريد أن ترى منجزات أهلها. وهذا ما جرى فعليَّاً في النظرة إلى مقدمة ابن خلدون الشهيرة. فكثير من منظّري ومفكري علم الاجتماع في العالم العربي، يقولون إنَّ الفرنسي (أوغاست كونت) هو واضع نظرية علم الاجتماع المعاصر، ويغفلون دور ابن خلدون الذي سبق كونت بخمسمئة سنة، وذلك يعكس انهزاميَّة داخليَّة تعاني منها الشخصيَّة العربيَّة.

لا أريد القول إنَّ مقدمة ابن خلدون، ونظريته الاجتماعية، كاملة مكملة ومثالية؛ إلا أن ذلك لا يعني مصادرة الجهود التي بذلها في هذه النظرية الكبيرة، التي أفاد منها كونت قبل غيره في نظريته التي يحتفي بها المفكرون العرب. ولذلك حاول الوردي إعادة الاعتبار لمقدمة ابن خلدون، حتى مع اختلافه مع بعض جزئياتها، عادّاً مقدمته خرقاً للحصار الذي فرضه المنطق القديم، وكان أكثر تحرراً من ابن طُفيل وابن رشد والفارابي، الذين لم يستطيعوا الإفلات من قيد المنطق القديم، رغم ملامح التجديد في بعضهم. وإذا كان أوغاست كونت درس المجتمعات وفق نظرية المجتمع الجامد والمجتمع المتحرك، فقد سبقه ابن خلدون بثنائية البداوة والحضارة، والصراع الأزلي بينهما، والقائم أساساً على تضاد الصفات بين الفئتين. ذلك التضاد الذي يرى فيه البدو، وهم أهل الغزو، أقرانهم الحضر وهم يتنعمون بالخيرات، ولا بدَّ من الهجوم عليهم. هذه النزعة البدويَّة العصبيَّة، ناقشها ابن خلدون في مقدمته، وتحدث عن ضمورها تدريجياً، بمجرد أن يتحسس البدو ترف الحضارة، أو حين تأتي حكومة تمثل التشريع، وهذا ما جعل الدكتور الوردي يسلط الضوء على رؤية ابن خلدون للدولة الأمويَّة، حين رأى أنّها بدأت جيدة، ثم بدأت تسوء تدريجياً بعد أن «انغمس خلفاؤها في الترف جيلاً بعد جيل، وكل جيل يأتي منهم يكون أكثر من سلفه في الترف والبعد عن مقتضيات الصلاح، حتى انتهى الأمر بهم أخيراً إلى الانهيار». ربما أراد الوردي – رغم عدم تصريحه بذلك – الإشارة إلى الخلفيَّات البدويَّة، والنزعات العصبيَّة لخلفاء الدولة الأمويَّة. ومن الأشياء التي أخذها الوردي على ابن خلدون، ورأى أنّه كان متناقضاً في طرحها، هي قضية الاحتجاجات والثورة ضد الحكام المستبدين، حيث جاء في المقدمة هذا النص: «ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإنَّ كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتشبّثون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون مأزورين غير مأجورين» نعتقد أنَّ هذا النص الذي جاء في مقدمة ابن خلدون الشهيرة مليء بالمتناقضات فهو يصف الذين يقومون على أهل الجور من الأمراء بمنتحلي العبادة وسلوك طرق الدين وفي ذات الوقت يؤكد أنَّ الحكّام الذين تمَّ الخروج عليهم وعلى حكمهم بأهل الجور!. كما أننا لا نجد سبباً لإطلاق توصيف قاسٍ كوصف الغوغاء الذي أطلقه على الذين يلتفون حول هذا الثائر على أمراء الجور، كما نجده يتطرّف في حكمه بأنّهم يهلكون مأزورين غير مأجورين. 

بينما رأى في مكان آخر غير الذي رآه في النص السابق، حين تحدث عن احتجاج الإمام الحسين على يزيد، والذي أنتج نهضة الطف، إذ رأى في المقدمة أن الحسين كان محقاً، لكنه لم يكن يمتلك الأهليَّة؛ بدليل النتيجة التي انتهت إليها ثورته. الأمر الذي جعل الدكتور علي الوردي يعتقد أن آراء هذه من السقطات الكبيرة التي وقع فيها.