مسرحة المكان بين المألوف واللامألوف في «دكة غسل الموتى»

ثقافة 2023/04/13
...

 عقيل هاشم

 ما يكتبه المؤلف علي العبادي من نصوص مؤثرة وغرائبيَّة، فإن خطابه المسرحي له تصوراته الخاصة عن قضايا شغلت الجميع، تتعلق، منها اعتلال حضور المتداعي -المرأة والفرد والوطن والحرية والسلطة وغيرها فقد أدرك ومن خلال خطابه المسرحي أن الفن جزء أساسي في التعبير عن هذه الموضوعات المهمة والإحساس بالمسؤولية الإبداعيَّة، وكيف مثل مع أبناء جيله - جيل ما بعد 2003 في كتابة النص المسرحي، ويوضح كيف أن الكاتب قد اشتغل على مفهوم أن المسرح هو أمل الشعب وطموحه وتطلعه إلى حياة فنيَّة وثقافيَّة.

يبحث الكاتب المسرحي “علي العبادي” في نصه (دكة غسل الموتى) عن فضاء مختلف يستطيع أن يستوعب قضية الموت المتكرر والمنتظر بـدلالة التنظيف للدكة وغسلها جيدا، تبدو العتبة الأولى لتطهير الدكة غامضة وكأنها اعتمدت الغموض مذهبا حتى تتلاءم مع ما جاء به المتن- الانتظار/ الجنون/ الهذيان/ التفاهة، ولترفع من وعي المتلقي منذ البداية، وتوحي أيضا بأنّنا أمام شخصيات مضطربة لاتنتمي للحقيقة تحمل في جعبتها الموت في عالم مرتبك وكذلك دلالة اللفظ على العتبة الموت “الدكة».

في هذ النص يتمرّد الكاتب منذ البداية على الفضاء التقليدي لمغتسل الاموات حتى يتسق ذلك التمرّد مع فضاء يستوعب فيض المشاعر والأزمات النفسيّة التي تختلج في صدر شخصياته حين يضع المتلقي في وضع تأثير مناسب يتسم بالغرابة بعيدا عن الرتابة، ربما لكي تناسب الحالة النفسية التي سوف تظهر عليها الشخصيات، مدفوعا بعبء اغترابي يبوح باختلاجاته ونوازعه وارتباكاته. 

جاء عنصر المكان مواكبًا للأحداث، معبرًا عن كل شخصية تتواجد فيه وقد أسهب المؤلف في وصفه نظرًا إلى أهمية الحدث المسرحي وضرورة تناميه، وأن عنصر المكان بأحداثه يمكن أن يتكرر في أيّ عصر آخر بشخصيات أخرى. ومبرر ويُعيد تشكيل الأحداث وتكون له دلالة الحدث، إن تضافر عنصري المكان والزمن المسرحي قد حقق التكامل في حالة الإيهام التي جاءت لتضع المتلقي في رهان اللاوعي ليندمج مع الشخصيات تماما ومع ما تقوله. 

إذ يقوم المؤلّف بإعادة بناء حياة الشخصيات التي يكتب عنها بتفاصيلها بناءً على وجهة نظره الشخصيّة الكابوسية نفسيا، بالطبع بالاعتماد على الدلائل الموجودة من قصص مرت على مسرح “دكة المغتسل” من أجل مناقشة قضية الفقد التي تناسب فضاء المكان من حيث القدرة على الطرح وانتظار التلقي وردود أفعاله.

 وتأثير حالة الفقد من خلال الفضاء وكابوسيته “المغتسل” التي تسهم الحروب العبثيَّة في خلق مسافة بين الموت/ الحياة وتمكن المتلقي من البقاء مراقبا في نصه هذا يراهن “المؤلف” على وعي المتلقي ويوجه خطابه مباشرة ويشركه في قلقه وانهياراته، والتي يسردها بكل جرأة، ويؤكد أن شخصياته تعيش في الحكي الساخر هروبا من الواقع، نحو عالم غرائبي، وكيف طوى الزمن سنواته وعانق العبث المغتسل وكأنّه المكان الوحيد الذي يمكن أن يوجه من خلاله خطابه المسرحي.

 تسوقنا الشخصية “1-2” إلى تعريف الهذيان بعودة الابناء بعد فقدهما لكي نستطيع الوصول إلى الدلالات التي يحملها التابوت الفارغ المحمل بالهدايا، وقد تنعكس ودرجة المسافة بين الحقيقة والظن وبين الفجيعة. وهنا نجد كيف اعتنى الكاتب بالمكان المغتسل ووجده الأنسب للتعبير عن العبثية والتي تقوم على عزلة وهذيانات شخصياته.

 حدد الكاتب الشخصيات بأنّها مضطربة وفي حالة هذيان كما وصفهما صاحب المغتسل بأنذهما قد تمّ غسل ابنيهما ومن قبلهما، وعليهما تجهيز الدكة للضيف ويأتي السؤال منهما وهل الضيف حي أم ميت.. وهنا سار النسق الدرامي في محاور ضيقة، ولكنها تحمل معاني كثيرة، إذ كشف لنا أبعاد الشخصيتين النفسية التي تتمثل في همومهما إذ إن قطار العمر مضى بهما وهما في المكان نفسه.

وقد نقل لنا الكاتب حالة نفسيَّة مكثفة في ظل حدث درامي شديدة الثراء وتنتهي بالسخريَّة منهما ووصفهما بالتافهين من قبل صاحب المغتسل لتكون النهاية مفتوحة لأنها تسير وفق قانون الموت. 

وفي ختام النص والتي سوف تكون ساخرة – الاحتفاء بالضيف بغرائبية الحزن بدل الفرح به وهذا الحضور له أبعاد درامية، أما بالنسبة للغة التي كتّبَ بها النص فقد اتسمت بأنها عميقة تصل إلى كل متلقٍّ، وتحمل دلالات كثيرة كما أنها تؤسس للفعل الدرامي بشكل منطقي وتتغير حسب الحدث والزمن والشخصيات التي تنطق بها من خلال حوارات مكثفة وعميقة تتسق مع الدلالة التي جاءت بها ويمكننا أن نصفها بأنها لغة مرنة ودرامية، وتبرز قدرة الكاتب في تصوير أفكاره ونقلها إلى لغة مكتوبة، كما أن كل شخصية تتكلم بنسق لغوي لا يختلف عن الشخصيات الأخرى مما يؤكد الوحدة اللغويَّة للمسرحيَّة، إذ استخدم الكاتب البنية اللغوية المناسبة والتي يفهمها كل متلقٍّ، وتبين قدرته على صياغة الحوار المكثف الذي ينسجم مع الموقف في العبارة

الدراميَّة.