فصوصُ النَّأيِّ والنَّغم

ثقافة 2023/04/13
...

  طالب عبد العزيز 


   أكتُبْ صباحَك على سياج الحديقة، واجعلِ الأملَ أحمرَ عليه. أكتبْ مدائحكَ على السعف الاخضر، وانسَ يومك في تِرعة قديمة، فالجُلّنارُ قمينٌ بفضلة الفجر على الساقية، وأكتبِ المساءَ في قدح الشاي بالنعناع، وسط الحديقة. امضِ الى قرنفلة وحيدة، اقنعها ببقية الشمس على العشب. ولكي لا تخذلك خرائدُ الدهورُ وبوائق الأمور خذ الليلَ الى السرير القريب، واعلُ من شرط كأس النبيذ، يتقربُ اليك.. تقرّبْ به، تقرَّبْ إليه.. يرحمك الله، فالنساءُ كلّهنَّ بأرديةِ العناق والقبل. 

  2 

   أحملُ اليكَ كتابَ الاسرار، وأطلعكَ أوَّلَ الفجر على ما تفحّم تحت الجفن، أريك تهافتَ السنين في قبضة من البقدونس، وأمنحك الطرقَ البعيدة في عثرة حصان واحد.. واليكَ، اليكَ أدنو، يدفعني كرسيُّ، لطالما وجدتَني نائمةً فيه، كنتَ تحْسنُ رفعَ ثوبي الى ما تشاء، فمتى تشاء؟ وكنت تردم الغيابَ بعندليبٍ يتأخرُ في الأغنية.. اعرفك في القطيفة، وفي الموسلين أعرفك أكثر، وفي الجينز الضيِّق، عند الحقو أراكَ، يدُك الباردةُ بطيئةٌ، لكنك لا تدنو، تروحُ الى نزهةٍ في بهو انتظار الضيوف، تبحثُ عن صورة أنيقة لكَ، ولا تعود، لذا، أدخلتُ المفتاحَ في سرِّ الخَزانة، وهدَّأتُ من روْعِ الأبواب، فهي لا تصطفقُ كما كانت، ومثل ملعقةٍ منسيّة في درج بالمطبخ صرتُ أبحثُ عمّن يتفقدني. سيأتي الليل وأحدِّثك عن الصقيع، وسيأتي النهار وأريكَ القميصَ الذي لم أخلعه البارحة. 

 3

  على لوحِ بآلةِ الكمان كتبتُ رقم هاتفي، وسيّرتُ الموسيقى اليك، وبين ورقة وأخرى كنتُ أجدكَ في وثائق السفر، ولما كنتَ في بهو الفقد ما تزال، ألجاتُ نفسيَ الى الاريكة، أخذني أبنوسُها الرطب الى ذكرى يدك. زجاجةُ العِطر منذ البارحة، لم يعثرْ عليها أحدٌ، لم أنسها، لكنني، تركتُ النافذة مشرعةً، فدخلَ هواءٌ كثير، كذلك كان اللبلابُ يصعّدُ سلاحفَه وجرذانَه معاً، لهذا أطفأ الجيرانُ مصابيحَ الشرفات، ولهذا وقفت النسوَة يتطلعنَ من فروج الدهشة الى ما تعبثُ عيناي به، الى ما أركله تحت السرير من الكرات والحبال والمصائر، أقذفُ بوجهك ما كانَ سفراً وصار كتاباً في السفر، وأنتزعُ من يدِك ماكان حقيبةً وصار بلاداً، وأتَّقي ماكان مِخْلباً وصار فريسةً، وكلَّ ما كان سريراً وصار نعشا. سيأتي المهرِّجُ وأحدِّثك عن الدموع، وسيأتي بائعُ الاحذية وأحدثك عن الرقص، ذلك لأنّك لن تأتي أبداً.

  4

   يستلُّ النغمُ من الرِّقِّ نَفَسَاً، أسمّيه أوبَةَ الرعاة، ولا أعني مسافةً في التذكر، ولا قبّرةً لبقية النهار.. ليسَ لكَ إلّا أنْ تدقَّ بابَ الغيب، لتصبحَ لي عند كل نازلةٍ تُجاهاً، لكنْ، أنّى لهذا النسيج ترادفَ الهمس والبوح، من أوقعَ الموسيقى في حبائل الجذَّب هذه، من راتَبَ على سلّمها فضيحتنا في السهر والليل القليل، ومن أدخل الجُملَ المجنونةَ في المعاجِم، حيث لا إجابة ولا سؤال؟  يقول العارفُ: كان ذلك قبل أنْ تفقدَ الطبيعةُ روحَها من الحجر والماء، وقبل توالي الطَّرْقِ في المسامير، قبلَ ترادفِ النَّغمِ في روح القصب..  وفي رحلة الشيخ التي ابتدأت بالجبل وانتهت اليه، ذاك الذي عبر الأودية كلَّها، وخاض الأنهار، واختار باديةً لم يقطعْها السيَّارةُ بحافر، حتى أرهقته المفازات، هارباً من حنوِّ الآلهة الى غضبِ الولاة، أولئك، الذين وجدوا في قطائعِ روحهِ ما يحزُّ العُنق، ويُربكُ أقدامَ العائدين، ولا يُطوى ما انتشرَ منه إلا بالطمانينة

والنسيان.

5

  مفجوعاً يجيءُ صوتُ المُنشدِ من القاعةِ المجاورة، وعلى وقع حوافر بغل مندثر بين الجبال يتقطَّعَ النَّغمُ الذي كنتَه، وانتهيتَ اليه، وبين الطرق التي لا تُرى راحلتُك عليها، ولا يحْصِبكَ خلفَ طرفائِها الاطفالُ، كنتَ أذنِت لطائر الحجر بمشافهتك، فكان لسانُكَ بليلاً بذكرى ليلتنا تلك، وكان مُرادكَ في خُرْج يتدلّى طائعاً، فلماذا أتبرأ منك وبكل اللغات الآن، وأجيئك من قطيعة وأخرى؟ ومن حجرٍ لا يتقي اللهَ في عُكّازةٍ لي؟ على الرملة التي لا يتوقَّفُ الحُداةُ عندها كنتَ تقطعُ الجبلَ الى الجبل، وتبرأ من علةٍ إلى أخرى، وفيما يقضمُ العشبُ مباءَة الشمس، يخضرُّ بعينيك وادٍ لم تبلغْه بعد، فما أخوفني عليك في الوهاد تلك، وقد أفرغتَ عليَّ من فصوص نأيكَ دلاءً.