زائرٌ يُوقظ الموتى
صالح حسن فارس*
جئت من مدينة أمستردام، من بلد الزهور، {فان كوخ}، {رامبرانت}، {وسبينوزا}، حيث ما زال الشتاء جاثماً على وجه المدينة هناك، مشيت هنا في بغداد الحبيبة وحدي، أتطلع في المدينة لرؤية حلتها، وشوارعها المهملة، أتأمل أناسها، جدران جوامعها الملونة، كنائسها، مقاهيها، تمثال (كهرمانة الحزينة، الأربعين حرامي)، (نصب الحرية)، ومن حوله أتحسس ما بقي من ثورة تشرين، الهتافات والدماء المسفوكة، المسرح الوطني وبريقه، مبنى القشلة، شارع المتنبي الذي شوّهته محاولات التحديث، فصار مزاراً بليداً، ضاعت بهجته وهيبة، هذا الشارع الذي يمثل أيقونة بغداديَّة قديمة.
بعدها دلفت إلى (شارع النهر)، متذكراً أيام الكلية ومغازلة النساء، حتى وجدتُ نفسي في شارع (الرشيد) أصبح هرماً ومهملاً، تغير كل شيء جميل فيه، ومررتُ بسوق (الشورجة) العتيق، لأنغمس وسط روائح البهارات والكركم، والقرنفل. وصلتُ إلى شارع (أبي نواس) فوجدته تنبض فيه الحياة من جديد، وشاعرنا "أبي نواس" يطوف حوله عشاقه العابرون. وكأنَّه هاربٌ من البرد والمطر والريح، باتجاه الشمس ودفئها... الشمس هي قبلتي ومتعتي.
قضيتُ كثيراً من الوقت وأنا أنظر إلى الناس وأسمع كلامهم كثيراً، رأيتُ أغلب العراقيين يقضون أوقاتهم، ما بين اللعب "بالموبايل"، وبين تدخين الأرجيلة في البيوت والمقاهي، كان الوقت يتسرب من بين أيديهم، كدخان الارجيلات.
كنتُ أنظر وأسمع كثيرا، ضجيج أصحاب (التوك توك)، ومغامراتهم الصبيانية.. ثرثرة حول الدين والسياسة وكرة القدم. هوس كبير انتاب الناس في بناء البيوت العالية، وسط العاصمة بغداد وضواحيها.. استثمارات واسعة في قطاع البناء، بناء المولات، بذخ مبالغ فيه، ثراء فاحش هنا.. وفقر مدقع هناك، جشع، ولامبالاة يفرضها الأثرياء على الواقع العراقي. وجدتُ بعضهم أعطتهم الحياة أكثر مما يستحقون، لاحظتُ ظاهرة نفخ الشفاه وتكبير الأرداف بالسيلكون، وصبغ الشعر بالون الأصفر.
كثرت البيوت العشوائيَّة للفقراء، هنا وهناك، بعدما ضاقت الأرض بهم، هذا النوع من البناء غزا مدينة بغداد، وكأنه جائحة تشبه جائحة "كورونا".. الشوارع مكتظة بالناس والسيارات، الاهتمام بالحيوانات، والطيور أصبح أمراً مألوفاً عند الكثير من الناس حتى أهلي وأقاربي، وارتفاع الأمية الأبجدية والحضارية، وتراجع القراءة.
مدن العراق لا تشبه المدن الأُخرى، ففي كل زيارة للعراق، أُلاحظ تبدل معالم ومباني وطرق كل مدينة من مدن العراق، وكلما أتطلع إلى الناس، أجدها مختلفة عن مشاهدتي لها في المرة السابقة، لم اسأل أحداً منهم، فوجوههم تفصح عن خفايا أنفسهم المتعبة.
كنتُ أرى وجوهاً يانعة، وأخرى كالحة أنهكها الحنين والتعب، أغلب أصدقائي مشغولون بالعمل، وهم في حالة انتظار لإحالتهم إلى التقاعد، أو التفكير بالسفر، ثمة نفس تشاؤمي واضح ممزوج بإحباطات كبيرة، فهم لا يكفون أبداً عن التذمر والشكوى.
هذه الزيارة وفرت لي فرصة ثمينة أن أعيد الذكريات، وأشاهد الكثير من الأصدقاء والأقارب والأماكن، زرتُ مدينة الكاظمية، ومحافظة ديالى مدينة البرتقال. مشيتُ في شوارع مدينة الثورة، ومررت في ساحة 55 وتذكرتُ الشاب الوسيم طويل القامة، ذا الشعر المنفوش، الذي أعدمه البعثيون وعلقوا جثته على عمود الكهرباء، بحبل وتركوه لمدة ثلاثة أيام تقريبا.
رأيتُ قباباً ومآذن، أسواقا شعبية، وباعة على الرصيف. شاهدتُ رسومات غريبة خلفها الأطفال على الجدران، أسلاكا كهربائية تتدلى من الأعلى، شوهت وجه المدينة.
ذات يوم زرتُ بيتنا القديم في مدينة الثورة داخل، من دون أن أدخله، كنتُ أجيل النظر بمعالمه من الخارج، متفقداً أيامي ولحظات طفولتي وشبابي التي عشتها مع إخوتي التسعة، شممتُ عبق الطفولة، حين كنتُ أتهجّى الحياة والكتابة معاً. تذكرتُ دفاتري المدرسيّة، أحسستُ برائحة أمي التي كانت ترتق قمصان قلوبنا، وتقدم لنا رغيفاً ساخناً من يدها الطيبة.
مرّت بخاطري ذكريات الأهل، تذكرتُ بوضوح ملامح جدتي، وجه أبي الذي كان يتوضأ، تذكرتُ سطح الدار، ومراجعة دروس الأدب والتاريخ في البكلوريا. تذكرتُ نظراتي إلى طيور أخي، وبنت الجيران. كانت أصوات صياح مشجعي كرة القدم لبطولة الخليج العربي 25، تقطع عليَّ تأملاتي، لكن مع ذلك شاركتهم الفرحة بفوز العراق.
في اليوم التالي تناولتُ في بيت أخي، وجبة غداء شهية من السمك المشوي والرز الأحمر على الطريقة العراقية، صعدت التاكسي، وتوجهتُ إلى منطقة الكرادة وسط العاصمة بغداد، لألتقي بأصدقائي الفنانين هناك، يبدو أن سائق التاكسي انتبه إلى القبعة التي أضعها على رأسي، ونظاراتي الطبية، فاستنتج أني من الأطباء، فمدّ يده وقدم لي صورة لأشعة القلب التي كانت في السيارة، وقال لي:
الله يخليك اقرأ لي هذه الأشعة؟
ضحكتُ من طلبه الغريب، وقلت له أنا لستُ طبيباً، شكرني وواصل قيادة سيارته بصمت. وصلنا إلى منطقة الكرادة (داخل)، فوجدتها بأبهى حالاتها في وقت المساء.
كانت المحال التجارية، المطاعم، مشرقة بحلة بهية، وهي تنير إعلاناتها الضوئيَّة الملوّنة، وتفتح أبوابها أمام الزبائن، لشراء مختلف البضائع والسلع. يبدو أن هذا الشارع أكثر متعة وجاذبيّة للنساء.
هنا لا تحتاج إلى موعد مع صديق، فإذا كنت لم تلتقِ بصديق منذ فترة طويلة، فحتما ستلتقي به عند زيارتك لمقهى "رضا علوان" أو "كهوة وكتاب". وقفتُ لحظة أمام مجمع "الليث"، قلت لأصدقائي:
هنا استشهد ابن أخي وابن عمي، في انفجار الكرادة عام 2017. مضوا تاركين وراءهم كماً كبيراً من الذكريات والأحلام التي لم تتحقق بعد، شممت رائحة أجسادهم المحترقة، وانتابني حزن عميق، وعرفتُ حينها، أن البناية لم يكن فيها سلالم نجاة، ولهذا تفحمت الجثث.. ما زال الحزن يخيم على ذوي الشهداء، مثلما يخيم على المكان...
"هل هذه الزيارة تختلف عن الزيارات الستة الماضية"؟ بابتسامة خفيفة، سألتني ابنتي:
- نعم، قلتُ لها.
وأكملت؛ في هذه الزيارة ثمة تطور ملحوظ في الأمان، التقيت بأخي وأسرته حين عادوا من تركيا، كل شيء تغير هنا، ملامح الناس، والمدينة، تطور طفيف في معالم بغداد، عودة السينما في المولات بمدينة بغداد. قال لي ابني ذو الخمس سنوات:
أريد كل عام أن أزور بغداد، وألعب مع الأطفال وأشاهد بيت عمو وبيت خالو، وأزور كربلاء والنجف، وسامراء، وأمي تأخذ لنا صورا لا تُعد ولا تحصى في بغداد ومناطق أخرى.. ثم تابع حديثه قائلاً: بابا... بغداد حلوة تخبل، لكن لماذا البيوت من الداخل حلوة ونظيفة؟ والشارع قذر؟ لماذا بعض النساء لا يعملن، ولماذا الناس لم يقفوا بالطابور؟ قلت له:
"يجب أن يكون القانون مثل الموت الذي لا يستثني أحداً" كما يقول "مونتسكيو" .
سألت زوجتي: أين نسهر في ليلة رأس السنة؟ سنسهر في بيت ابن عمي قلتُ لها، هيا لنأخذ تاكسي لمدينة الحبيبية، دخلنا فيلا بديعة من طراز خاص، متكونة من طابقين، خادمة نيجيرية تساعدهم في تنظيف البيت وترتيبه، جلسنا في الصالة الكبيرة المخصصة للرجال الضيوف، تتسع الصالة إلى أكثر من خمسين شخصاً. ستائر الشبابيك باللون الأزرق، على الجدران معلقة لوحات تشكيلية تجارية، وآية قرآنية. لقد أعدوا لنا وليمة عشاء فاخرة، احتفاءً بزيارتنا لهم، جرت بيننا أحاديث عن الحياة والسياسية والتجارة.
كنتُ أتطلع إليهم واحداً واحداً، أخي الصغير يجلس قبالتي، مشغول بتنظيف أسنانه من بقايا اللحم... ضجيج الأطفال في الجانب الآخر، ضحك النساء يختلط مع صوت التلفزيون، ابن عمي يجلس بجانبي وهو يحتضن المدفأة، كان يمضي أكثر وقته يتصفح بالتلفون، بعد أن تجشأ أكثر من مرة، وهو يشكر الله على هذه المناسبة السعيدة، التي التقينا بها معاً.. نفخ دخان سيجارته الالكترونية في وجهي وقال: لماذا لا ترجع للعراق؟ لم أجد جواباً مقنعاً له، فاكتفيت بالابتسامة في وجهه.
استيقظتُ في صباح اليوم التالي على صوت المؤذن، مفعماً بالطاقة والحيوية، ربما بسبب أضواء الفجر التي بدأت تخترق زجاج الشباك.
الناس في العراق لا يحتاجون إلى منبّه ساعة ليوقظهم عند الصباح، فأصوات الباعة المتجولين في الشوارع تأتيك في وقت مبكر من النهار، وهي تنبعث من مكبرات الصوت تسمعها بأصوات رجالية، (مي ارو، مي ارو)، عتيك للبيع، خيار، طماطة، بطل زاهي، وأشياء أخرى.
في مساء اليوم التالي، كنتُ مدعواً لحضور حفل زفاف ابن أختي، حلقتُ ذقني وتعطّرت بعطر فرنسي، وارتديت أجمل ملابسي، التزاماً مني بمقولة زوجتي: (عندما تذهب إلى حفلة عليك بارتداء أبهى الملابس).
حضرتُ حفل زفاف ابن أختي، كان حفلا مميزاً، التقيت فيه بأقاربي وأصدقائي.
قال لي أخي: أراك مسرورا هذا اليوم، أجبته لأني لم أحضر حفل زفاف في العراق منذ أن غادرته قبل ربع قرن، لأول مرة نفرح ونرقص معاً، رقصتُ بكل جسدي وروحي.
الوداع:
من عادة العراقيين رشّ الماء خلف من يسافر منهم، تيمناً بالخير والسعادة اللتين يعبّر عنهما الماء، رشت أختي الماء خلفنا في الشارع.. انتابنا صمت عميق، كانت لحظات بديعة وكان آخر هذه اللحظات الوداع، دموع، عناق، وصراخ الأطفال.
أخذنا صوراً تذكارية، وداع مع الأهل والأصدقاء والأحبة، وداعاً يا بغداد. قال لي ابن عمي: "يا رايح وين تسافر تعيا وتولي". بكينا معاً.... قالوا لنا بصوت حزين.. مع السلامة وعيونهم قد اغرورقت بالدموع.
تحركت السيارة بنا باتجاه مطار بغداد، هكذا انتهت زيارتي السابعة لبلدي العراق، لقد ظلت تزدحم ذاكرتي بكل الصور والذكريات والمشاهدات.
يخنقني الوداع، بحاجة للبكاء، بكيت، لقد بكيت، كانت هذه الزيارة مملوءة بالفرح والسعادة.
حالما وصلت مطار مدينة أمستردام، أخذتُ تاكسي للبيت، السائق شاب أفغاني في الأربعين من العمر، وسيم بعض الشيء، يرتدي بدلة أنيقة سوداء اللون، سألني قائلاً:
أنت فنان مسرحي أليس كذلك؟ بنعم أجبته، ثم أكمل قائلاً:
هل عرفتني؟ ... كنا معاً في مدرسة اللغة الهولندية قبل عشرين عاماً، يا لها من مصادفة بديعة.
قلت له: يقول الشافعي: "سافر تجد عوضاً عمن تفارقُه، وانصب فإنَّ لذيذ العيش في النصب".
وصلنا البيت ومعنا حقائب كثيرة، هدايا وذكريات. دخلتُ الحمام أغسل جسدي من التعب، وأفكر بالعراق وأهلي، وبما قاله لي ابن عمي، أن أرجع للعراق، وأستقر
فيه.
أخذتُ أقلب في رأسي وجوه أقاربي وأصدقائي الذين التقيتهم.
ونحن نغادر بغداد، ثمة بهجة وجمال، وسعادة ولحظات بديعة من الفرح كانت مع الأهل والأقارب والأصدقاء.
هنا تنتهي رحلتنا وعدنا أدراجنا من حيث أتينا الى المدينة الساحرة أمستردام لأكمل كتابي عن العراق بعنوان: " زائرٌ يُوقظ الموتى".
• فنان مسرحي يقيم في أمستردام
• المقال من كتاب قيد الانجاز بعنوان (زائرٌ يُوقظ الموتى)
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة