تجارب سرديَّة مغايرة في مرويات ذئب

منصة 2023/04/13
...

  باسم عبد الحميد حمودي

لؤي حمزة عباس منتج سرديات مهمة تستحق الوقوف نقدياً وفكرياً وانت تستخلص منها بنية جديدة في العرض الإبداعي، إذ إن صاحبها يعرف أنه يقول الكثير في تجارب مكتنزة مثقلة بالوجع الإنساني والقدرة على مفارقة المألوف بلغة لا تتشظى، بل هي متماسكة تقدم لوحات جديدة لتجارب سرديَّة تنشئ الجديد.

في مجموعته (مرويات الذئب) التي أصدرتها دار شهريار في البصرة 2019 يسهم مع الكاتب الناشر د. صفاء ذياب بكتابة تقديم مثقل بالتحليل المجدي الذي يؤكد أن قصة لؤي (في كثافتها الناصعة، أقرب الى الصمت وهي تنتج نبرتها المغايرة وتعيد بناء العلاقة مع التراث الإنساني) وهو بذلك يشير إلى عنفوان التجارب التي يقدمها هذا الكاتب الذي لا يكرر تجارب سابقة، وأن استلهم التراث الإنساني المتفجر بالوجع والعطاء، ويصنع من مختاراته الفكرية نسيجاً جديداً لا يشبه سواه.

يشارك الناشر في دعم تجربة هذا القاص الذي نحتفي به الفنان التشكيلي علي آل تاجر الذي قام برسم تجارب لؤي السردية فيما قام الفنان الشاعر صدام الجميلي برسم لوحة الغلاف الأساسية.

هذا التعاون مع الناص انتج للقارئ كتابا سرديا مثقلا بالعاطفة والوجع الإنساني أطلق عليه الكاتب عنوانا فرعياً هو (خيالات قصصية) وهو عنوان أراده المؤلف وسيلة أو طريقا للانفلات من ذلك التطبيق التاريخي المخل بين صناعة لؤي للحدث التاريخي أو المتخيل وبين التنفيذ (التاريخي) للتجربة الإنسانيَّة.

في اللوحة القصصيَّة الأولى التي نسجت تحت عنوان (كتاب الذئب) يقف المنشئ في متحف الكتب الصغيرة قريبا من قصر شرونشاه، وهو يتأمل هذه التجارب الفنية الغنية ويتماهى تاريخيا –وهو في باكو- مع تجربة، حسين أوغلو الباكوي خاقان باكو الملقي بـ (الرجل الذئب)  يوم الثامن من شباط 1803 وهو يستعد لتوقيع معاهدة الاستسلام للفريق الأول سيسانوف ممثل قيصر روسيا الأسكندر.

تتوقف عدسة القاص عند الوسام المتدلي من رقبة الفريق والدائرة القرمزية في وسطه، والظاهر أن لون الدائرة كان منسجما مع حركة الخاقان وهو يطعن الفريق الأول بخنجره ليسيل دمه القرمزي بدلا من التنازل المخزي، ليعود القاص الى جو المتحف الغريب مناقشا مديرته -ظريفة خانم- في معروضات المتحف الغريبة المجلوبة من كل أنحاء الدنيا وبمختلف اللغات ليتوقف عند مجلد أبيض بحجم سلامية الأصبع مرسوم عليه لوحة لبيكاسو للدون كيخوته الحالم وتابعه سانشو بانزا الحالم.

ثم ينتقل بعد مشهد قتل الفريق الذي تصاحبه من الخارج صراخ الجند النذير بمعركة وسط هدير بحر يبتلع الأصوات ليتوقف أزاء موظفة المتحف وهو يتفحص كتابا ذا جلد أسود فيه تخطيط دقيق لذئب شاب تحكي وحدته ورهافة أحساسه ليسألها عن اسم الكتاب فتقول انه (خيالات الذئب) وهو أقدم كتب المتحف ولم يكتبه أحد، لكنه بدا لنا متماهيا مع حركة الخاقان وهو يطعن الفريق الأول الذي صرخ من هول الضربة

وينتقل السارد بعد هذه اللوحة التي تتداخل فيها صورة الذئب مع طعنة الخاقان مع الكتاب الذي لم يكتبه أحد (!) إلى غرفته في فندق في بالكة وهو يستحضر كل الصور وخيالاتها.

في سرديته الثانية (ساكنو المصابيح) ينقلك لؤي حمزة إلى تجربة غريبة أخرى إلى ذلك التشكيل المخل داخل المصابيح التي تتحرك فيها مجاميع من الحيوات والدقائق الصغيرة بشكل محموم مدة نصف شهر وهي تأكل لحوم حيوانات الضوء السارحة.

هنا، ينتقل السارد الى طفولته حيث يضع أمامنا صور الفتية وهم يلعبون في الشوارع بالكرات الجلدية ليصدموا تلك المصابيح التي تتفجر ويموت فيها ما كان يعيش من حيوات، لينتقل بعد هذا الى مشهد آخر وهو يصور شخصا يقف آخر الليل تحت مظلة في الشارع بانتظار سيارة أجرة لينفجر مصباح المظلة ليشعر بالخوف وارتجاف يده وقد سقطت عليه ذرات الضوء فيما سمع أصوات أناس يستغيثون!

هل الناس هنا هم حيوانات المصباح المتفجر، أم هي صورة تتساقط مع اللوحة السالفة؟ لا يقول السارد شيئاً، بل يترك النص مفتوحاً مخيفا مليئاً بخيالات موجعة.

تمضي تجربة لؤي حمزة في نص (طريق الغابة) لتقدم لنا إضافة سردية تتيح لنا الكثير من الاستكشاف والتأويل حيث يكون دخول صديق في شجرة وسط غابة مكمنا لحياة تستمر لدى الصديق الثاني الذي استمرت حياته خارج الغابة ودخل الحرب ونجا من شرها  وتزوج وهو يعود كل مرة إلى الشجرة التي اختفى فيها صاحبه  ويناشد ويأمل أن يراه من دون فائدة.

اقتلعت كل أشجار الغابة إلا شجرة صاحبه المختفي وصاحبه ينتظر أن يراه من دون أن يظهر!.. ترى ما الذي يأمله من نهاية لاختفاء مخل داخل شجرة بدت عجفاء لاتعطي شيئا..؟ ينتظر نهاية لحياة ناقصة الحب بعد اختفاء الصديق.

في مسرودة (الحيوان) يبدو النص متمما لنص طريق الغابة حيث ينبجس صوت الحيوان من داخل المروي عنه، وهو يجوس الغابة واصلا إلى البحر ساهرا يتملى صوت الحيوان داخله من دون أن يراه حتى داهم ليله النهار وقرر المروي عنه الدخول أو العودة الى جذع الشجرة حيث قاد دراجته اليها مستكملا تجربة المسرودة السابقة.

في القصص التالية (إنها أشجار حياتي) و(مقارعة الصوت) و(البرعم) تجد الشيئية واضحة تخترق الطبيعة الغضة وخيالات الكاتب وهو يعيش تجارب حياة لا مرئية، مفترضة.

وفي (آخر العالم) ثمة توق للوصول إلى آخر العالم في سفينة آخابية لا أثر لموبي دك فيها سوى الرغبة للافلات من حياة ثابتة إلى حياة متحركة غير موجودة حيث تلفظه السفينة إلى البحر والشاطئ المستعاد، وقد ذهب قاطع التذاكر مع سفينته (هل هو عزرائيل أم رضوان الجنة؟!) ليعود الهارب إلى دوامة حياته.

تتكرر تجارب التجديد وغليان النفس في القصص التالية لنقف عند تجربة (الذئب عبر النافذة) حيث يخرج الذئب الرمادي المفترض من خزانة ملابس الراوي لينطلق خارج المنزل مزمجراً ثم طائرا في الجو والناس يتأملون حركته مشدوهين حتى يختفي وهم يخشون أن ما رأوه مجرد خيال بينما الرجل يرى الى الذئب داخله.. يعبر حياته

تستمر تجارب القاص المتفردة لترسم صوراً مغايرة للألم واستمرار الحياة وسط تجارب ملتبسة حتى نصل الى تجربة سردية مختلفة هي تجربة (النظر إلى التمساح من مسافة قريبة) وبطلها رجل محال إلى التقاعد يرى تمساحا في الشارع فيتابعه ويصحبه إلى المنزل ويتعايش معه، هو يفكر في الخطوة التالية من حياته مع تمساح استضافه وهو يفكر في الهجرة 

مع زوجته!

هل التمساح يعد رمزا للمغايرة عن الذئاب السابقة؟ أم هو صورة ثبات لا تعني أحدا سوى الراوي الذي اختار مصاحبة التمساح ثم التفكير بالتخلي عنه أيضا؟ تظل النهاية مفتوحة على مسارب متعددة فيما تتكرر تجارب هذا القاص الفكرية الذي يستعين بالطبيعة والحيوان ليشكل تجاربه السرديَّة التي تحتاج إلى أكثر من وقفة لادراك أهميتها الدراميَّة الفكريَّة معا.