تحولات النسق في {قلوبنا التي وصلت.. شكراً لساعي البريد}

ثقافة 2023/04/15
...

  د. كريم شغيدل


في نص عبد الرزاق الربيعي (قلوبنا وصلت... شكرا لساعي البريد) من مجموعته (شمال مدار السرطان) المكون من عدة مقاطع تبدأ بالعبارة الأولى من العنوان: "قلوبُنا التي وَصَلتْ/ وَصَلتْ مبلّلةً:/ مثل وقوفِ الأمّهاتِ بانتظار/ البحّارةِ الغرقى/ بعد أن شبعوا موتًا/  وحصى/ وزرقة"(ص 57)

ثم ينقطع الخطاب بصيغة الجمع بما يشبه الالتفات أو تغير الخطاب: "تحتربُ روحي بأتربتِها الثقيلةِ/ بانتظار وجوه الملوك/ ورؤساء الدول/ عندما يصطفّونَ/ على يسار ختم البريد"(ص58)

 وهذا هو المقطع الأول الذي جاء بانتقالات صوريَّة وموضوعيَّة عديدة، فقلوبنا التي وصلت توحي بأنّها تدل على المفرد بصيغة الجمع، ثم الانتقال إلى الآخر (الأمهات- البحارة) ثم إلى مدلول الزوال، الموت بأعمق صوره، الإشباع الزمني والجسدي، ثم الانتقال إلى الذات بصيغة خطاب مباشرة، من خلال صورة الصراع بين الروحي والمادي (روحي- أتربتها الثقيلة) ومقابل انتظار الأمهات، يأتي انتظار من نوع آخر، بملمح تهكمي، في إشارة إلى السلطة بصورتها الفردية وبصيغة الجمع (ملوك- رؤساء) لبيان هيمنة الاستبداد والتسلط من خلال وجود صورهم على طوابع البريد أو أختامه. وفي المقطع الثاني يكمل النص مدلول الرسائل التي كانت الوسيلة الوحيدة للاتصال بالآخر قبل شيوع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فيبدأ أيضاً بصيغة الجمع التي يراد بها المفرد: "قلوبُنا التي وَصَلتْ/ وَصَلتْ ممزّقةً جزئيًّا:/ (أخوة بروتس) / هكذا أسمّي أصدقائي/ كلّما حشرتُ قلبي/ بكاملِ نبضاتهِ/ في فراغِ الصندوق"(ص60).

 وهنا ينتقل النص إلى التاريخي الأسطوري، ليستحضر قصة يوليوس قيصر، وصديقه بروتس الذي شارك في قتله، وقال فيه قولته المشهورة التي وردت في مسرحية شكسبير: (حتى أنت يا بروتس؟!) فهل يريد الربيعي أن يصف أصدقاءه بالخيانة؟! ربما، ولكنها خيانة من نوع آخر، إذ جاءت مقرونة بفعل دال على التواصل لتبديد الغربة في المنافي (كلما حشرت قلبي...) والقلب هنا كناية عن الرسائل التي كان يرسلها إلى أصدقائه، والصورة التي رسمها الشاعر بكنائية سلسة وبسيطة بمحمول عاطفي، وإن أضمرت نوعاً من الهجاء للآخر إلا أنه هجاء مشحون بالعتب الودي، لكن استحضار (بروتس) هنا من باب المبالغة الشعرية، يتحمل أن يكون تهكماً، مرتبطاً بعبارة شخصية يطلقها على المقربين من أصدقائه، إذ كسر المحمول العاطفي لصورة القلب المحشور بكامل نبضاته في فراغ صندوق البريد حدة الوصف الهجائي لتضعه في سياق التهكم، وفي مقطع آخر يبدو أقرب للسرد السيروي، ينتقل فيه النص أيضاً من اللازمة الدال المفرد بصيغة الجمع إلى السيروي الذاتي: "قلوبنا التي وَصَلتْ/ وَصَلتْ تالفةً:/ أُغادر (عمّان) مثلما ولدتني مدينتي/ عاريًا إلا من الأورامِ/ أورامٌ بسبب البطالةِ السميكةِ/  أورامٌ بسبب احتراقِ الإقامةِ/ بسبب جاريَ الذي لم يقلْ لي/ (صباحَ الخير)/ أغادرُ (عمّان)/ حاملًا قبضةَ مطرٍ/ وطينًا يتدلّى من أسفلِ بنطالي/ أحكّهُ بشموسِ (صنعاء)/ هكذا تتلاقحُ العواصمُ العربيّةُ/ لتُزهرَ متشرّدينَ جُدُد"(ص61).

 تهيمن على هذا المقطع دلالات الترحال والتغرب، وهذا جزء حقيقي من سيرة الشاعر، فمن مدينته (بغداد) التي لم يذكرها صراحة، إلى عمَّان التي كانت محطة كل المهاجرين والمنفيين العراقيين إبَّان حقبة التسعينيات إلى (صنعاء) التي كانت محطة أخرى للعمل، وقد اشتغل النص على فكرة الولادة، على اعتبار أن الانتقال من مدينة إلى أخرى أو إلى عالم آخر جديد هو ولادة جديدة للإنسان في حضن مكاني آخر، لكن الولادة هنا مشوهة (عارياً إلا من الأورام)، كما ولدته مدينته الأم، ثم يسترسل في أسباب الأورام (البطالة، الإقامة، الآخر)، فالبطالة دال مباشر لضيق العيش، والإقامة دال على الإجراءات التعسفيَّة التي تتخذها السلطات بحق المهاجرين، من دون مراعاة لأي عامل إنساني، والآخر- الجار دال على المواطن الأصلي الذي يعجز المهاجر عن الاندماج معه، بسبب نظرته الفوقيَّة، وتضمر هذه الصورة نسق الكراهية التي يكنها الآخر، بكونها جزءاً من نسق أيديولوجي ذي بعد سياسي واجتماعي واقتصادي، فالمواطن ينظر للآخر الوافد بوصفه منافساً له في بلده، ومزاحماً له في حياته ومعيشته، وهذا النسق ينتمي إلى أنساق البداوة مثلما ينتمي نسق التعسّف السلطوي لفرض هيمنة السلطة بفرض إجراءات متشددة على من تعدهم غرباء، وهذا مؤشر ثقافي مهم، فنسق الكراهية يمكن أن يكون مصدره الشاعر في النصوص التقليديَّة، أو بتعبير أدق الشاعر وما تسيطر عليه من مهيمنات نسقيَّة، بينما في هذا النص نجد الشاعر هو الذي يكشف ذلك المضمر ويعاني منه ويرفضه، وفي قرارة نفسه رغبة في التواصل الإنساني مع الآخر. وقد تضمن النص مقاطع هي بعض الرسائل المكنى عنها بالقلوب (ثلاثة نماذج) أشبه بالوثائق، الأولى للاجئ عراقي، والثانية لـ (فائزة) ابنة أخت الشاعر، بدلالة صيغة الخطاب التي تقول فيها: (خالي.. إننا مشتاقون لك كثيرًا/ الله يخليك ارجعْ ارجعْ ارجعْ) / فائزة في 8/11/1994.

 أما الأنموذج الثالث فهو عبارة عن وصيَّة كما ذيله الشاعر، وهذه الوثائق، إذ تأتي في سياق نص شعري، إنما تؤشر لقصدية فنية في التنافذ الأجناسي، فهي تنتمي للسرد صراحة، ما لم نقل للميتا - سرد كما يصف فاضل ثامر والذي يعد جزءاً عضوياً من الرواية، فالربيعي في نصه هذا يخلق قارئاً ضمنياً يوجه إليه خطابه، مثلما يخلق ذوات أخرى توجه خطابها إليه أو لآخرين، وهذا ما أعطى النص حركية بنائية وتنوعاً دلالياً، ومساحة اشتغال ثقافي، على موضوعات التواصل والغربة والمواطنة، والاندماج، والسلطة، وغيرها.