في فلسفة القانون

ثقافة 2023/04/15
...

 حازم رعد 

يقول سقراط [أتتصور مدينة لا يحترم أهلها القانون.. إلا تندك هذه المدينة من أساسها].

من معاني الفلسفة هو البحث في الطبيعة والمجتمع للكشف عن حقيقة الأشياء ويتحقق الكشف، إذا تم ايجاد أصول وقوانين نقف من خلالها على جوهر الطبيعة والمجتمع، فتشريع القانون يسبقه كشف وحفر معرفي للواقع والظروف المحيطة وتحديد الملابسات العامة لأي مجتمع. وبعبارة أوضح كل ذلك يحتاج إلى فلسفة تقدم رؤية عامة تسبق التشريع، إذن فمعرفة الشيء تتم من خلال تحديد معيار أو مجموعة معايير تقاس بواسطتها الأشياء وتوزن، فالمعيار هو القانون والعكس صحيح، والذي فيما لو طبّق يحقق نوع من العدالة في الحدود التي يطبّق فيها، ويجايل ذلك معرفة أهمية الشيء والغاية من البحث فيه والكشف عنه، لأنَّ إحدى لوازم فلسفة الشيء هو الكشف عن جدواه وأهميته. 

والقانون "هو مجموعة القواعد التي يتفق عليها التي ما أن طبقت حققت غرضاً ما" وتكمن الأهمية في الإمكانية التي يتوفر عليها أو في مقدرته على تنظيم مختلف شؤون الحياة والناس وتوجيه سلوكاتهم صوب الوجهة الأنسب لهم، وكذلك ضبط ممارساتهم من الشطط والانزياح عن السياق الصحيح في الأمور العامة والشخصية، ويتم ذلك وفق منظومة من التقنينات الاعتبارية الموضوعة على أساس رؤية المشرع الحذق والملم بما من شأنه منتجاً للمصلحة في جهة ومستوى معينين من حياة الناس، فأي مجتمع بلا قانون تسوده شريعة الغاب تحكمه علاقات القوة.

وفي التزام القانون تحفظ الحريات العامة من الاستباحة وتصان الحقوق من التداخل والاعتداء أو التلف، وكذلك يفيد القانون في تمشيته للحياة العامة والشخصية على مستوى العمل والعلاقات بالآخرين وبالدولة، بل وبكل ما يدخل تحت طائلة شؤون وتدابير الإنسان والمجتمع.

ولم يجعل القانون في يكون أداة رقابة وعقوبة تستخدم بتعسف ضد آخرين، إذ هو ليس سلطة وإنما تشريعات تنظم السلطة وشكل العلاقة بين الأفراد وبين السلطة، يقول عباس العقاد [القوانين لا توضع لتمكن الفرد من فعل ما يشاء، ولكنها توضع لهدايته إلى فعل أحسن ما يستطيع، ولا ضير من إكراهه على إصلاح أمره، إذا كان في حاجة إلى الهداية والصلاح، وأكثر الناس في حاجة دائمة اليهما يجوز في تربيتهم ما يجوز في تربية القصر والأطفال].

والأصل في ذلك واضح، وهو أن الإنسان بطبيعته ميّال للتمرّد وعدم التقيّد بالقوانين والنزعات الخلقيَّة ولو سنحت الفرصة للتمرّد لما تردد لحظة فليس الإنسان حمل وديع، كما قد تصوره لنا بعض الأدبيّات، إذ تسيطر عليه نزعة الغلبة والتنافس والتملّك، وكل تلك الدوافع تذهب به للسيطرة ومزاحمة الآخر من أجل التفوق عليه، ويسعى لاحتواء الأشياء لمصلحة نفسه والحظوة بما يراه جيداً لمنفعه نفسه، وهذا بحسب الدوافع الغريزيَّة للإنسان من الأشياء الواضحة، فكل إنسان إذا رجع لنفسه، قد يستوعب ذلك الأمر ويتفهمه بلا أي غموض وضبابيَّة. 

وإن وجد بعض الناس هادئين لا تعصف بهم نزعات الغلبة والأنانيات الذاتية فهؤلاء شاذون عن القاعدة، أو هم ممن تمكنوا من السيطرة على تلك النزعات الجوانيَّة من خلال التهذيب والرياضات والتدريب المستمر. 

ولكن ما يمنع عامة الناس من ركوب الأخطاء وقهر الآخر ومحاولة احتوائه هو القانون وليس شيئا آخر، وحتى ما يطلقون عليه الضمير الحي في المنظومة الجمعية في خلط، فالضمير الأخلاقي حاصل سلوك فردي وليس حصيلة وعي جمعي فالضمير بحسب دي هولباخ ليس شيئا غير صوت رجال الشرطة، أي قوة الردع في القانون، فإنَّ (أهم خصائص الدولة امتلاكها نظاماً قانونياً الهدف منه عامة هو قابليته للتطبيق على جميع المواطنين بشكلٍ متساوٍ، كما أن وجود هذه القوانين يحد من قوة الحاكم على المحكوم) كما يقول ايان كروفتون .

فكان النظام "القانون" في هذه الحالة هو الذي يحاصر رغبات الإنسان ويسيطر عليها ويوظف أدوات ناجعة من شأنها توجيه أفكاره بالشكل الصحيح وتنظيم سلوكياته على وفق أنساق واعتبارات قانونيَّة يراها مهمة لكبح جماحه المتطلعة للحظوة والامساك بزمام ممارساته التي قد تضر بالآخرين وبنفسه ومن ثم تحدث التدافع والضرر.

تكمن إحدى سمات قوة القانون في كونه كلياً يشمل جميع الأفراد، ولذا يعتقد بعض الفلاسفة كانط مثالاً في أن أهمية القانون تكمن في كونه عاماً يطال الجميع دونما استثناءات "فهذه الأخيرة تثير العصبيَّات كما يرى برتراند راسل وهذه المستفزات تخلّف وعيا طبقيا تمييزيا بين الناس وهذا ما يفقد القانون صفته الشموليَّة والكليَّة ويعطي المبرر للأفراد بتجاوزه وعصيانه"، وذلك واضح من خلال ما يعتقده كانط في العقل من شمولية تامة تشمل الأفراد والحصص بعدالة تامة، يقول شيشرون (إنه من رأي أعقل الحكماء أن القانون لا يرجع في أصوله إلى فكر إنساني، ولا إلى عمل أمة من الأمم، ولكنه شيء خالد يحكم الكون كله بما يوحيه من أوامره ونواهيه)، وهذا يشبه قاعدة أخلاق الواجب عند ايمانوئيل كانط، إذ يجد أن ينبغي تطبيق المبدأ الأخلاقي بصرف النظر عما يستتبع ذلك من خشية من عقوبة أو مطمح في مثوبة، إنما يطبق بوصفه واجباً بذاته ولأنه قانون فقط .

ولو دققنا أكثر في أهمية القانون لوجدناها تتجلى في مسألة قد تكون خافية على الأعم الأغلب، ومفاد تلك المسألة أن الدين أو المفسر الديني "البشري" يتنازل عن حكم شرعي غاية في الأهمية في سبيل حفظ النظام وتطبيق القانون وهو الحق الإلهي في الحاكميَّة أو تسيير شؤون الدولة، فإنَّه من المعروف أن الأساس، وبحسب الحقيقة الدينيَّة أنَّ الحاكميَّة لله وحدة ولمن يستخلفه لإدارة شؤون المعمورة والعباد (طبعاً هناك تفصيلات في هذه المسألة تحتاج لشروح وتفسير لا يسع المقام لسردها) ولكن المشرع يتنازل عن ذلك الحق المهم والأساسي في ظل ظروف موضوعيَّة لحكم الإنسان أو تفسيراته لشكل الدولة والحكم حفظاً للنظام والمشرع يقر ذلك الشكل من الحاكميَّة ويمنع الخروج عليه حفظاً للإنسان وللمقدرات وتمشيه للشؤون الحياتيَّة، وهذه نقطة مهمة توضح أهمية النظام والقانون المدني.

وقد تضافرت جملة من النصوص الدينيَّة التي تحكي هذة الحقيقة لعل أهمها [لا بدَّ للناس من أميرٍ برٍّ أو فاجر] ويمكن تفسير الأمير هنا بمعنى السلطة حسب الفهم التأويلي الحديث للمفردة، والتي توضح صورة الحاكميَّة للناس من قبل شخص واحد وهو شكل من النظام كان معمولاً به في حيينه، ولكن ما يهمنا منه هو تأكيد النص على ضرورة النظام والحاكميَّة كمنطلق لحفظ النظام وتطبيق القانون لحفظ الإنسان وأمنه ومقدراته. يبرز القانون كحاجة للبشريَّة إلى التنظيم في مختلف مجالات حياتهم اليوميَّة العامة والخاصة، وكذلك لخلق حاله من الانسجام المؤطر باعتبارات وضعية تنظيمية لمختلف أشكال العلاقة بين الأفراد أنفسهم وبينهم ومع الطبيعة وبقية الأشياء التي يتوفر عليها الواقع. 

والقانون حاجة اجتماعية تظهر على صورة انحسار الفوضى والعشوائيَّة، فحياة منظمة أفضل بكثير من حياة يسودها التوتر واللانظام قد تؤدي إلى حدوث أمور غير محمودة اطلاقاً من تداخل حريات الأفراد فيما بينها، ومن ثم الضرر بمفهوم الحرية وبالأفراد، وأيضاً قد يؤدي ذلك إلى حصول الجريمة وسلب الحقوق والتنكيل والاستبداد وغيرها مما هو معهود في مجتمع غير منظم، فضلاً عن أن المجتمع الذي لا يحكمه القانون هو مجتمع غير مستقر سياسياً، إذ تتداخل الارادات لفرض النفوذ واحتكار أشكال السلطة وتوجيهها بشكل يدفع بالواقع نحو الاهتزاز والارباك والتعسف، وكذلك مجتمع بلا قانون يعاني نفسياً فهو يفتقد للطمئنان والشعور بالأمن، وهذا أهم عامل لحصول القلق المستدام والخشية المستمرة التي تفقد الإنسان راحته في هذه الحياة وتضغط عليه بشكل سلبي.

فمن ميزات القانون والنظام أنه لا يدع مجالاً لبروز التموضعات والترهلات الأخرى الثانويَّة التي تنوب عن القانون في حال غيابة لظروف استثنائية سواء كانت عناوين أو مفاهيم، لأن القانون وبخاصة الذي يفرض حاكميته بقوة الدولة والقانون المشرع لمصلحة الإنسان سيمحق ويقضي على تلك التخندقات وذلك التشظي ليس بقوة السلاح كما قد يصور للبعض وإنما [بتلبية متطلبات المواطن المادية والمعنوية ويسد احتياجاته ويسخر الامكانيات المتاحة لتوفير طموحات المواطن] فهو سيملي الفراغ ويشغل الحيز في الواقع، فلا يدع مجال لوجود تحديد غيرية من تلك الاشكال التي تنوب عنه، وقد اشار صموئيل هنتغتون لمعنى يشبه ذلك عندما تعرض لمسألة تثبيت النظام وفرض الحاكمية للدولة، ليس من خلال القمع والسيطرة المدججة بالرجال والسلاح، وانما بتوفير لوازم العيش الكريم للمواطنين وتوفير متطلباتهم ما يجعلهم راضين على أداء النظام، ومن ثم اكتسابه شرعية البقاء والاستمرار.

من هنا، نستطيع القول إن اهمية القانون وعظمته تكمن في حفظه للاستقرار وللجنس البشري من الفوضى والتصادم وتطويق للنزعة الإنسانية التمردية المنسوبة لعمقه وأفعاله التي قد ترهقه وتوقعه في مشكلات ومعاناة هو في غنى عنها فيما لو انصاع للقانون وطبق النظم الدستورية لحفظ حياته وصيانه مقدراته، وما يرتبط بحياته العامة والخاصة، فإن أفضل المجتمعات بلا منازع هو ذاك الذي تشيع في ظهرانيه ثقافة قانونية ويطبق القانون عن قناعة بملء ارادته، فالقانون ضمانة العيش الكريم والاحتكاك السليم الناعم بين الافراد وبه يحفظ النظام ويثبت السلم المجتمعي.