الاستعارةُ المضاعفة.. أو ما وراء تخوم المعنى

ثقافة 2023/04/16
...

   د. فارس عزيز المدرس

 هناك مستويات من الاستعارةِ لا يكفي أن نقول فيها إنها هدف جماليٌّ، وبلاغة لتعزيز المعنى، بل هي بذاتها تحقق معنىً لا يمكن إدراكه إلا بها. وهذا يعني أن الاستعارة سبيل من سبل المعرفة؛ بل صانعة لها.وفي الاستعارة المضاعفة لا يكتفى بانزياحِ اللفظ عن معناه الأصلي، والقضية ليست مشبّه ومشبه به، جرى سقوط أداة التشبيه عنهما، بل أن المعنى تحول إلى مستوى آخر، وابتكرت الاستعارة - ولا شيء سواها - معنىً جديداً لا صلة له بالمعنى الأول. وتحقيق هكذا استعارة يحتاج إلى خيال مبتكر؛ ومتلق يفهم عمقَها؛ بمعزل عن سياقات المنطق التداولي.

والخيالُ المبتكِرُ بهذا المنحى لا يستهدفُ أنْ تكونَ الصورُ التي يشكّلها انعكاساً للواقع؛ بقدر ما يدفعُ بالقارئ إلى إعادةِ التأمّل في قدرتِه على التعبير عن ذلك الواقع، من خلال اشتغالٍ استعاريٍّ لا يستمدّ قيمتَه مِن مجرّد الطرافةِ في البيان؛ بل مِن قدرةِ الاستعارةِ على إثراء الحساسية الذهنية وتشكيل الوعي، وهذا ما أُسمّيه (الاستعارة المُضاعفة). ولا أزعم أنّ هذه الفكرة جديدة، لكنها تحتاج دفعاً مُستجداً وتطويراً؛ لتدخلَ في نطاق نظريةِ المعرفة. 

نشأت بذور الفكرة أولاً لدى عبد القاهر الجرجاني ثم تنامت لدى الناقد الانكليزي ريتشاردز.(I. A. Richards)  وسأعزّز وجهةَ نظري بكلامِهما، لأضيفَ فكرةً جديدةً مَفادها: أنّ الاستعارةَ المضاعفة وسيلةٌ للتفكير؛ وليست محسّنا بلاغياً فحسبُ. 

يقول الجرجاني عن الاستعارة: “وإذ عرفتَ هذه الجملة فها هنا عبارةٌ مختصرةٌ؛ وهي أنْ تقولَ معنى ظاهراً، ومعنى المعنى. وتعني بالمعنى الظاهرِ اللفظَ الذي تصلُ إليه؛ بغيرِ واسطةٍ، وبمعنى المعنى أنْ تعقُدَ مِن اللفظ معنیً يُفضِي إلى معنى آخر” انتهى. 

إنّ اشتغال الاستعارةِ قُبالة ركودِ المعنى الأول هي التي ستبدِع في ابتكار معانٍ عابرةٍ للألفاظ العادية. إنّها لغةٌ داخلُ اللغة؛ لكنها تحتاج إلى مستوىً عالٍ مِن التخيل لتتحوّلَ إلى وسيلةِ إدراكٍ، لكنْ بحضور شِعرية المعنى؛ تحت مِظلة الجمال. 

يعلّلُ الجرجاني حكمَهُ الجماليّ بقوله: “جمال الألفاظِ لا يكْمنُ في ذاتها؛ بقدرِ ما يكمن في اتّساقِها الذي يخلق عوالمَ دلالية تخيلية عجيبة، أيْ أنَّ المعانيَ الجديدة التي ستترتَّب على هذا الاتساق تنبثق مِن صميم الجمال؛ لابتكارِ معنىً جديدٍ، أو زيادة المعنى الأول وإثرائه.

  ويُعرِّف أبو هلال العسكري الاستعارةَ بقولِه: «نَقلُ العبارةِ عن موضعِ استعمالِها إلى غيره؛ لغرضٍ. ولولا أنّ الاستعارةَ تتضمّنُ ما لا تتضمّنه الحقيقةُ مِن زيادةِ فائدةٍ؛ لكانت الحقيقةُ أولى منها استعمالاً. ولم تتعدّ الاستعارةُ طيلةَ المَسار البلاغيِّ القديم كونِها تعبيراً مجازياً؛ أو صورةً شعريةً خرجت بالتشبيه عن مَساقهِ؛ للأغراض التي أجملها العسكري.

  أمَّا النظرياتُ المعاصرة فترى فيها - بتعبير جان کوهن - نوعاً مِن المجافاةِ والتوتر. وهذا يعني أولاً: أنّ الخيالَ صانعُ الانزياحاتِ في النص، وثانياً: أنّ الاستعارة أكثرَ الانزياحاتِ التي يعتمدها الخيالُ، فهي توسِّع المسافةَ بين حقولِ الدلالة، بقدرتها على جمع المتضادات والتعبير عنها معاً.

والاستعارةُ على هذا فِعلُ تفكيرٍ يحتاجه الإنسانُ في معارفه العليا؛ حين لا تسعفه اللغةُ العادية. أي أنّ هذا المستوى مِن التعبير لغةٌ إضافية تستعمِل الحروفَ نفسها والكلمات؛ لصنع دلالاتٍ أكثر غنىً. وهكذا استعارة عابرةٌ لنطاق الجمالِ - وإنْ تضمَّنته - ليست فصاحةٌ، ولا بلاغةٌ لتحسين المعنى؛ بغيةَ إضفاءِ متعةٍ، بل لغةٌ مبتكِرةٌ للأفكار.

حين يعمدُ الأدباءُ والفلاسفةُ إلى استعمالِ الاستعارةِ للتعبير عن معانٍ تستعصي على اللغةِ المتداولَة فهم يطبّقون ما هو عابرٌ لطبائعها التي لا يمكن لأحدٍ تخطّيها بأدواتٍ تقليدية. ليس لأنّ المعانيَ المطلوبةَ بالاحتواء تنتمي إلى عوالمَ تجريديةٍ ونفسية وغيبية فحسب، بل لأنَّ العوالمَ المادية نفسَها لا تستغني عن الاستعارة؛ إذا أرادت تقديمَ صورةٍ مستجدةٍ للعالم الذي يُراد وصفه. وهنا تكتسِبٌ الدلالةُ طابعاً مزدوجاً أو مُتعدداً، إذ تتحوّل الاستعارةُ إلى ضرورةٍ لإيصال (المعرفة)؛ بعد أنْ كان استعمالُها لا يتجاوز الاستعمالَ البلاغي آنفِ الذكر.

 دشّن نيتشه نمطاً جديداً مِن الكتابة تُستخدم فيها الاستعارة إلى درجةٍ تتطابق فيه الكتابة الشعرية مع الفكر البحت، حتى ليُصبح التعارضُ بين الشعرِ والفلسفة وهْماً أقامته في نظره الميتافيزيقيا؛ للفصل بين العقل والغريزة. والتعبيرُ بواسطة الاستعاراتِ يعني لدى نيتشه البحثَ عن الأسلوبٍ الأكثر احتواءً للحقيقة. 

والكلام أعلاه يدعمُ القولَ بأنّ لغةَ الأدبِ ذاتُ الطابع البلاغي ليستْ مجردَ لغةٍ غارقة بالمجازات؛ لغايةٍ جماليةٍ فحسب، بل تسعى إلى تقديمِ معرفةٍ تتولى البُنى الدلالية المتحصّلة مِن تلك المجازات؛ بما يخدم مقولةَ أنّ للأدبِ قيمةً معرفيّة. فإذا قيل: المعاني ثابتةٌ وواضحةٌ، فنَعم؛ ولكنْ هذا للمعنى الأول؛ بينما الانزياح يوَلِّد معانٍ أُخر. 

وإذ بقيَت هيمنةُ قسمٍ مِن الآراء على التراث البلاغي تَجزم بأنّ المعاني لا تحتاج إلى كلِّ هذه الانزياحات؛ فيأتي الردُّ من (ريتشاردز): بأنَّ المعنى المتولّد عن الاستعارةِ ينتج عن حضورِ الحامل والمحمولِ مجتمعَين؛ ولا يمكن الحصولُ على المعنى المتولّدِ مِن دون التفاعلِ المشترك بينهما.. فإذا كان المعنى السابقُ الوجود على الاستعارة هو نفسُه؛ بعد تَلبُسه بالاستعارة فما الجدوى منها إذن. وتأسيساً على ما سبق يمكننا القول: بأنّ للاستعارة المضاعفة عالمُها الخاص، فإنْ حضرتْ في النصِّ فهي تقوم بتأسيس العالم المُدرَك على محورين. 

الأول هو أنَّ الاستعارةَ حاملٌ للمعنى الذي قصدهُ الكاتب؛ كونها تتمتّع بجماليةٍ تَجعلها تَعْلق في الأذهان، وهذا ما يسعى إليه كلُّ كاتبٍ.

 الثاني يتمثّل في أنّ الاستعارةِ فضلاً عن كونها تولّد معنىً جديداً؛ إلا أنها طريقةٌ للتفكير، والأمر ليس تشبيهاً سقطت عنه أداةُ التشبيه كقولنا (رأيتُ زهرةً تضرب على الناي)، ولا تشخيصاً يثري الدلالة، بل مضاعفة المعنى؛ وتجاوزه جملةً؛ وإنْ احتوى على التشبيه والتشخيص ضِمناً.

 إنَّ عبارتي: (يسوق التاريخُ جِيادَه حول جذْع الزمن، فلا مُنتهى ثَمةَ ولا بدءُ). استعارةُ فقدت المشبَّه، لتعبّرَ عن صيرورةٍ دائرية، تنغمس في الحتمية. وفي التفسير الدلالي تعني كلمةُ (يسوقُ) الإرادةَ والحتمية، وتدلُّ الجيادُ على الحركة، أمّا التاريخ فكنايةٌ عن الأحداث، ومن الواضح أنّ الجذع هو المحور. وهنا تعجز تخريجاتُ البلاغية الكلاسيكية عن ضبط المعنى، وتبيان كناياته ومجازاته، فلا مفرَّ حينها سوى إلى خيال القارئ ليربطَ الصورَ مع بعضها، ويستحوذ على الألفاظ ويصنعها تصنيعاً جديداً. أي أنّ الاستعارة مارست التفكير بكلِّ حسمٍ وشعرية. وعبّرتْ عن معنى خطيرٍ؛ جاء مُكثفاً في عبارةٍ لا تتجاوز العشر كلمات.

وهنا يبدأ دورُ القارئ ليمارسَ حضورَه في تشكيلِ الدلالة، وعليه يصبحُ النصُ أكثرَ قدرة على البقاءِ والانتشار. وبهذا تتحقّق اللغةُ المضاعفة، أيْ انطواء بُنيتِها الدلاليةِ على ما يسمِّيه ريكور (فائض المعنى).

 يرى جورج لاكوف أنَّ الاستعارةَ حاضرةٌ في كلّ حياتنا. وهي ليستْ مقتصرةً على اللغة، بل توجد في تفكيرنا وفي الأعمالِ التي نقوم بها أيضاً.. وبما أنَّ التواصلَ مؤسّسٌ على النسَقِ التصوري الذي نستعمله في تفكيرنا وأنشطتِنا، فاللغة تعدُّ مَصدراً للبرهنةِ على الكيفيةِ التي يشتغل بها هذا النسق.

وبهذا الصددِ تحدّثَ المعرفيون عن الاستعارةِ بكونها تصوراً ذهنيّاً يسكنُ عقلَ الإنسان؛ ومن ثم يؤثرُ على حياته، وقد وسّع لاكوف الفكرةَ وركّز على أثرِ المفهومِ الاستعاري في صناعة الموقف والسلوك. ومِن هنا ستقوم العلاجاتُ النفسية على فكرةِ تغيير تصوّر الإنسانِ عن الشيء الذي يقلقه؛ بمحاولة زرع استعارات جديدةً مكان المختزن في عقل الإنسان، لأنّ الاستعارة الجديدة سينْجمُ عنها سلوكٌ جديد. وهذا يعني أنّ الفكرةَ الاستعاريّة ستكون مِن الأساليب الضالعةِ في تشكيل الوعي. وهذه مشاريع قيدُ الدراسة؛ وقد يكون لها في أفق الزمان ثقلٌ خطيرٌ في نظريات اشتغال الدماغ وعلاقته بالصحة النفسيَّة.

ويعوّلُ الأدبُ الفلسفيُّ مثلاً على استخدامِ أقصى تخومِ اللغة؛ ليصلَ إلى التصوراتِ والأفكار التي يريد معالجتها؛ ويُسعِفه في ذلك استخدامه الاستعارة؛ لتحقيق ما سبق مِن كلامٍ عن اشتغالِها وأثرها في إحداث المعنى المستَجدِّ، وفي التأثير على القارئ، ودفعه إلى المشاركة في تشكيل الدلالة.

وقد دافع الكثيرُ مِن الفلاسفةِ عن الاستعارةِ في النص الفلسفي، فـنيتشه “سعى إلى إثباتِ وهْم التصور الأفلاطوني الذي كرّس الفصلَ بين العقلِ والخيال، واجترحَ نمطاً مِن التفكير بالحدْس، ولم تعُدْ الاستعارةُ لديه مُحسناً بلاغيّاً، وإنما أسلوبُ تفكيرٍ مُلازمٍ لقصدٍ فلسفيٍّ. وهذا ما دفعهُ لعَرضِ أفكاره على شكلِ شذراتٍ غاية في العمق والجمال، تدفع بمُؤوّلِ النصّ لأنْ يعثرَ على الأفكار بصيغة صور وأخيلة انقلبتْ إلى أفكارٍ لها بنيانها المستقل تماماً.  وبعدُ: أرجّحُ أنْ يكونَ لموضوعُ الاستعارةِ المضاعفة في الدراساتِ الغربية مستقبلٌ عظيم، لكنها في كلّ الأحوال تحتاج إلى لغات ذات حيوية وسعة في قاموسها وأساليبها. واللغةُ العربية مرشحةٌ لهكذا أفق، إلا أنَّ الظرفَ الذي تعيشه غيرُ مناسبٍ؛ مع أنَّ لها فائق الأهلية. والسببُ يعود إلى هيمنةِ المدرسية التقليدية على دراساتها اللغوية والبلاغية، ثم إلى قصورِ الثقافة السارية عن مجاراة أفقها، فضلاً عن فقْر المؤسسات العلمية في دعمِ وتطوير مِثل هكذا أفقٍ معرفيّ.