أ.د. سيّار الجميل
في الأزمنة المنصرمة، كان التأليف عملية شاقة وصبورة ودقيقة ولها أصحابها من ذوي الخبرة والاطلاع والثقافة العامة والشعور بالمسؤولية والامانة العلمية والذائقة الأدبية، سواء كانوا من الاكاديميين أم غير اكاديميين، وعندما ينشر {الكتاب} وقتذاك فإن مؤلفه قد يكون محظوظا بتقريض من هذا، ويخشع من نقدات ذاك ليرّد او يستسلم للملاحظات.. وكل من يقتني أي كتاب جديد يدرك قيمته ليشتريه ويقضي الساعات الطوال من أجل قراءته والتمتع بمضمونه او يرجع اليه سواء في حقول الادب، أو التاريخ، أو الفلسفة، أو السير، أو المذكرات، أو علم الاجتماع، أو النقد الادبي.. الخ.
كان {الكتاب} له مزاياه وله قيمته في ثقافتنا العربية وله ردود فعله في مختلف الاوساط، وأن كان صاحبه من ذوي المكانة العلمية أو الادبية أو السياسية، فإن كتابه سيحظى باهتمام الصحف والمجلات أو المجالس والمقاهي والمنتديات.
وكان كل مؤلف يحترم تخصص الآخر، فلا يتطفّل هذا على موضوع ذاك إلا أن امتلك رصيدا قويا من المعرفة.
اليوم، يختلف عن الامس في ثقافتنا العربية، وخصوصا في العراق، إذ غدت عملية تأليف الكتب مدجنا للناشرين، وصناعة مفضوحة للمؤلفين الذين يمارسون أسوأ عمليات الاستلاب، وقد نزل لى الميدان كلّ من هبّ ودبّ ليؤلف الكتب ويتنطّع بأغلفتها، وكلّ من ألّف كتاباً يتخيّل نفسه وقد أصبح فيلسوفاً ومؤرخّاً وعنواناً شهيراً وقيمة اجتماعية لا يضارعها أحد.. اصبح هذا الميدان لا تعرف رأسه من رجليه، فهو ممتلئ بأناس من أنواع شتى، وأغلبهم لا مراعاة لهم لأصول الكتابة، ولا معرفة لهم بالسرد، ولا ملكة لهم في الأسلوب والصياغة، ولا خبرة لديهم بأية خطة أو منهج، بل ولا يدرك هؤلاء الجدد ماهية ما تتضمّنه كتبهم للصالح العام، أو الاضافة المعرفية، أو الابداعات الرائعة..
وأنا واثق بأن لا يقرؤها أحد.. ان كلّ ما يهمه مثل هذا المؤلف أن يتلقى المديح الفارغ أو المجاملات المزيّفة من هذا وذاك.. لقد وجدت ان هؤلاء يكتبون المديح بحق المؤلف ويجعلونه عملاقاً وقامة عليا في المعرفة وهم جميعاً لم يقفوا على الكتاب بعد، فالكتاب لم يزل في المطبعة، ولكن صاحبه نشر غلاف الكتاب للتباهي بنفسه.. وبعد نشر الكتاب لم يطلع عليه احد وأن نسخه مجرّد هدايا من المؤلف لا يهتم بمطالعته ناقد ولا يسعى لقراءته مثقف حقيقي..
المؤلفون في هذا الزمن التعيس أنواع، فهناك من هو خريج فيزياء أو حقوق، وقد جعل نفسه مؤرخا أو كاتب سير وتراجم، فتجد الاخطاء التي يرتكبها لا يمكن تخيّلها، وآخر من أعوان الحكم السابق، واليوم يتباهي بنشر مذكراته ليجعل نفسه مناضلا ضد النظام السابق كذبا وبهتانا من أجل مصلحته الشخصية، وآخر استسهل أمر التأليف وهو يعد نفسه مفكراً استراتيجياً فينتج كتاباً تافهاً يقدّم فيها نظريته لخلاص العالم!! وآخر يستلّ كاللص مواد كتابه من الانترنيت، إذ ليس له إلا "الكوبي بيست" ليجمع أوراقه عن شخصية معينة أو حدث معين ليخرج علينا بدعايات رخيصة عن كتابه الجديد.. ومؤلف من اصحاب الشهادات العليا ينشر رسالته أو اطروحته بقضّها وقضيضها من دون مراجعة ولا تحرير وبكلّ اخطائها النحوية والاملائية ليقال عنه "العلامة الفهيم"، وآخر يستلب نصوص أساتذته استلاباً وقحاً من دون ذكر اصحاب الافكار التي تضمنها كتابه! وأغرب مؤلف من مؤلفي هذا الزمن الكسيح أن يذكر ما يعجبه من المراجع المعتمدة، وينكر او يتغاضى عن ذكر المؤلفين الاخرين لأسباب طائفية أو جهوية أو شخصية! وتذكرت أحدهم إذ انفضح عندما نشر زميله متهما إيّاه بسرقة أطروحته كاملة من الألف إلى الياء، فما كان من الجامعة الا أنها وبخته وانزلت درجته العلمية من أستاذ مشارك الى مدرس لسنوات عدة! وحدثني أحد الاصدقاء في لندن ان شخصا عراقيا يروج اسمه اليوم في المنتديات وهو يتباهى أنه قام بتأليف مئة كتاب منشور! قلت لصاحبي: متى كان لديه الوقت حتى يؤلف كلّ هذا العدد من
الكتب؟
إن لم تكن جميعها هي تآلف منسوخة.. وثمة حالة باستطاعة الخبراء في الكتب وصناعتها الوقوف عندها ذلك أن بعض المؤلفين يقومون بسلخ كتب أخرى ورسائل جامعية ويخرجونها بأسمائهم ناهيكم عن آخرين يقومون بمسخ الكتابات والمؤلفات من أجل تشويه تاريخ معين او شخصيات معينة.. ومن واجب أيّ مؤلف أن تكون له ثقافته الواسعة في الموضوع الذي يكتب فيه، بل وعليه ان يستكمل كل مصادره ومراجعه ويميّز بينها ويقّدم أفضلها عن الاقل شأناً.
هذا لم نجده اليوم أبداً، فالمؤلف اليوم غبي أو غير مدرك كيفية صناعة الادبيات وأصول الكتابة والتأليف.
ان مثل هكذا واقع منكود بحاجة ماسة إلى تبلور حركة نقدية يقوم بها نقّاد لهم منزلتهم التخصصية لتعرية ما ينتج اليوم في سوق الكتب.. وعلى المختصين أن يخضعوا ما ينتج من كتب للنقد والقراءة وتشخيص مواطن الخلل، وأن تقوم الصحافة سواء الادبية أم الثقافية بفتح الباب على مصراعيه لمعالجة مثل هذه الاخطار وتنشرها على
الملأ.
كلّ المجلات والصحف في العالم تفرد صفحات لتقييم الكتب المنشورة يوميا وكل المجلات لها أكثر من حقل لعروض الكتب ونقدها حيث يفكك كل كتاب وينقد مؤلفه ناهيكم عن أن المحررين القدماء للعديد من مجلاتنا وصحفنا كانت تفرد بابا للنقد الادبي، وهذا ما فعله انستاس ماري الكرملي وروفائيل بطي ومصطفى جواد وعلي جواد الطاهر ويوسف عزالدين وغيرهم كثير..
الامر الآخر او الخلل الاخر يتحمله الناشرون واصحاب دور النشر الذين لم يتورعوا عن نشر أيّ كتاب مهما بلغ من التفاهة والضحالة من اجل الكسب المالي، واصبح بعضهم من المسؤولين عن مراكز دراسات وبحوث يتقاضون مبلغا لنشر ما يتقدّم به هذا وذاك ممن يطمح أن يكون مؤلفا وهو لا يعرف من التأليف شيئا، بل وان اسمه لا في العير ولا في النفير! بل ان مراكز اخرى دخلتها الطائفية ايضا للترويج لهذا وتغييب عمل الاخر! والمشكلة اليوم ان لا أحد يستحي مما يفعل ولا يلتمس العذر أن أخطأ، ولا يعترف بأخطائه.. والأسوأ أنه لا يتقبل النصيحة أبداً، ولا التنازل عن تجاوزاته وتناقضاته، إذ يعد ذلك شتيمة له فيبقى والأغبياء يصفقون له ويجعلونه "مؤلفا كبيراً ومفكرا تحريراً"..
وهذا ما يراه كل يوم من قبل الاخرين.. لم يهتز للنقد ولا يتوقف عن بضاعته وهو يعتقد ان اسمه سيكون من الخالدين من دون أن يدرك أن بضاعته ستغدو في المزبلة.. إن مجتمعات اخرى تصدر فيها يوميا مئات الكتب، وأن السوق تحدد حركته نوعية الكتاب واحترام المؤلف لنفسه ولثقافته ومحيطه، ومتى كان كتابا هزيلا بتقييم النقاد والمتابعين فإنَّ المجتمع يرفض أي مؤلف تافه.. وعليه، لن ولم يبق إلا الاقوياء أصحاب العلامات الفارقة في التاريخ.
مؤرخ عراقي