جعفر لبجة
هذا الكتاب تضمن مشاهدات وذكريَّات يوميَّة للكاتب المهجر بلاسم فالح حمدي تفجّرت فيه مشاعره الجياشة، فكان يراعه سيالا وهو يرسم مشاهداته وذكرياته على صفحات ليكون كتاباً رائعاً من 250 صفحة من القطع الكبير. لقد نجح الكاتب في أن يحوز رضى القارئ، من خلال سرده لفترة نزوحه وتنقله من مدينة إلى أخرى ومن بيت إلى شقة وإلى محافظة دهوك ثم السليمانية وبغداد.
بعد أن عاث "داعش" الخراب في الانبار وعموم المنطقة القريبة التي عاش فيها الكاتب، الذي أخذ يقارن بين تصرف الغزاة الامريكان الذين عاثوا في الأرض فسادا ودمروا البنى التحتية وجعلوا من العراق أرضاً يباساً يستحيل العيش فيها بعد أن مسخوا حضارتها. محافظات بأكملها نزح أهلها وغادروا دورهم ولم يعد لهم مأوى حتى الخيام لم تعد تصمد أمام البرد والمطر والريح الذي بدأ بقلع الخيام من على الأرض ليترك الأسر في العراء، وفي احدى سفرات الكاتب إلى السليمانية شاهد الأسر تبات على الأرض أمام الفنادق بعد أن نفذت الشقق والغرف فكل غرفة أصبحت أجرتها 80 - 100 دولار يومياً حتى بات الناس في حدائق وخاصة قرب سوق [مولوي] هذا في وقت كان فيه سياسيونا الذين يتاجرون بمصائبنا يقومون بشراء الفلل في تركيا وفي اربيل ويسافرون بالطائرات ويستقلون سيارات (المونيكا) مع إقامة الولائم في الفنادق الكبرى من المال الذي خصص لانتشالنا من المحنة والعوز وكان الأمل بالنسبة لي أن تصمد مدينة الرمادي لتكون لنا بارقة أمل إلا أن نازحوها عبروا [جسر بزيبز] بعد أن يقوم كفيل من أهل بغداد بكفالتهم خوفاً من عبور الإرهابيين بينهم، وأخيراً تبرك ناقة تنقله في بغداد وفي مناطقها الشعبية يمر كل يوم على الاسواق والمحلات التي تحمل كتابات ذات مضمون مثل [الدين ممنوع والعتب مرفوع] وأخرى تقول [تداينه يفرح أداعيه يزعل تعوفه ينسه] وللثقلاء يكتب [صديقي مكانك في القلب وليس في المحل] وللمتطفلين [يمنع الوقوف امام باب المحل] اما المحلات الكبيرة والمولات فيكتب [المحل مراقب بالكاميرات] وفي صفحة شوارع بلا أرصفة كتب [بلاسم] يقول لم يعد هناك ارصفة يسير عليها المشاة قسم منها اصبحت موقفا لسيارات وقسم لاصحاب [الجنابر] وباعة الشاي الذي توسع تجاوزهم حتى وضعوا كراسي لمن يشرب [الناركيله]، أو بسطية على شكل كشك لبيع وعمل الفلافل، وأما الشوارع فحدث بلا حرج حيث يسود فيها الهرج والمرج، سيارة بيكب تبيع الرقي واخرى الخيار والطماطة وثالثة لبيع السمك الحي حوض من البلاستك على حجم السيارة وفيها السمك الحي.. يمضي الكاتب باستعراض مناطق بغداد وأهم معالمها، فيذكر مقهى الشابندر التي يديرها الاديب الحاج محمد الخشالي، وتسمية الشابندر نسبة لأصحابها ومنهم [إبراهيم الشابندر] شقيق الوزير [موسى الشابندر] في العهد الملكي وهم اصحاب املاك اراضي وعقارات ومزارع، وهذه المقهى مبنية من الطابوق والجص والسقف من الشيلمان والطابوق العقادة، داخل المقهى تخوت يحوي كل واحد لثلاثة اشخاص والحيطان مزينة بالصور واللوحات التي رسمها المرحوم عادل، ويقدم الشاي والحامض بالاستكان وجمهور المقهى موزعين ما بين متقاعدين (والأساتذة المتقاعدون يتواجدون يوميا تقريبا) والاستاذة المحامين ايام السبت فضلا عن الكتاب والمؤلفين والمثقفين، والثاني هم الشباب من خريجي الاعدادية والكليات واغلبهم تجمعهم الجمعة كيوم عطلة وبالعادة تخف الحركة والوجود بعد الساعة الواحدة ظهراً، يتوافد على المقهى كل الاتجاهات فأنت سترى وتسمع من خلال الاحاديث والنقاشات الشيوعي والقومي والاسلامي والمستقل ومن لا يؤمن بالاديان لكنه يؤمن بالله رباً وخالقاً من الصحفيين المداومين على الجلوس في المقهى الكاتب الصحفي [شامل عبد القادر] كاتب صفحة ذاكرة عراقية في صحيفة المشرق ورئيس تحرير مجلة الف باء وكذلك مجلة ذاكرة عراقية وعدد كبير ممن يهتمون بالفكر والسياسة والثقافة.
قبل أن أعرف هؤلاء كان رجل من أهل الصقلاوية قرية أبو سديرة يدعى [حمد السالم] كان عمله مشغلا لماكينة ضخ المياه من النهر إلى الأراضي الزراعية وعنده ماكنة نوع [ريبتون] وهذه الماكنة هي من بقايا الاحتلال الانكليزي تعمل بالنفط الاسود، وكان أحد الانكليز في الحبانية عسكري خبير بتشغيل وصيانة مثل هذه المكائن كان يومياً بعد الظهر يركب قاربا بمحرك منطلقاً من الحبانية حاملا معه بطل الويسكي والسيكار ليفنش ويتتبع عمل هذه المكائن، وصادف وجود مضخة علاها الدهن والطين والشحم والسخام فامسك بيد الفلاح المشغل قائلا: لماذا تهمل الماكنة ولا تنظفها وقام بتعليم المزارع الصيانة حتى يدوم عملها بصورة جيدة.
لقد غرس في [حمد] حب السفر لكثرة ما كان يحدثني عن مناطق العراق وخاصة البصرة موضحا لي طيبة أهلها وكيف أنهم يضيفون الغريب، فأخذني حب الاطلاع على زيارة مدينة النجف الاشرف رافقني أحد أبنائها من سكنة الكوفة التابعة للنجف وتم اصطحابي الى مرقد الإمام علي ورافقني إلى بحر النجف وما تحويه من مزارع في هذا الوادي الكبير وأراني المقبرة الكبيرة [وادي السلام]، وكذلك كان لي صديق من أهل الناصرية صحبني إلى هذه المحافظة الصديقة وأبى إلا أن يقوم بواجب الضيافة وزرنا تمثال الإمام والثائر محمد سعيد الحبوبي، وكنا نذهب صباحا إلى المقاهي المنتشرة ليكون افطارنا القيمر والشاي والكاهي وأيام [الباقلاء والدهن] وبعض الصباحات نرتاد مطعم [الباجة] وفي صفحة عنونها الكاتب [وخير جليس في الزمان كتاب] يقول هذه المقول حفزتنا منذ فترة الشباب على المطالعة وشراء الكتب أو استعارتها من المكتبات لغلاء اسعارها أو لعدم وجود عرض لها لقدمها، أما اليوم فقد أخذ يشغلنا "الموبايل" لما فيه جديد وبضغطة أصبح نحصل على قراءة أي كتاب قديم أو جديد ربما لم يدخل للمكتبات عندنا اضافة "للفيس بوك" لنتواصل مع اصدقاء لنا في الداخل أو في الخارج العراق، أو "اليوتوب" تحصل من خلاله على التواصل والماسنجر امام الغوغل سلام الله عليه لنحصل على ما يستعصي علينا فهمه فهو المعين لنا والموجه لنا لتفادي الأخطاء، لقد حل هذا الجهاز محل الكتاب وأصبح خير جليس للكبير والصغير وحتى لغير المتخصص في الادب والعلم هو "الموبايل"، اصبح التعارف وايجاد الصديق من دون مقابلة قد يكون لك صديق في امريكا أو أوروبا أو الصين المغلقة أو روسيا عن طريق هذا الجهاز الذي جعل الدنيا غرفة وليس قرية كما كان يقال.
وأصبح بمقدور الفرد أن تصبح له قناة خاصة به يعلن من خلاله أفكاره ويبشر بما يؤمن به من دون قيد، شرط أن لا يسيء للاخرين ويخترق خصوصياتهم أو يجرح مشاعرهم من خلال الاساءة لمعتقداتهم وما يؤمنون به من فكر أو دين، وهكذا هو العلم الذي يغير الدنيا فمئة سنة مرت من عمر البشرية تعادل ملايين السنين من أعمار السابقين.