السريان وتوثيق تاريخ الإسلام المبكر

ثقافة 2023/04/19
...

كامل داود

انتشر السريان في سوريا ولبنان وفلسطين وآسيا الصغرى والعراق، يتعبدون على المذهب السرياني الارثوذكسي، وكانت لغتهم اللغة السريانية، وهي لهجة نشأت في مدينة الرها، من اللغة الآرامية، وبها تكلم السيد المسيح، وكانت إحدى اللغات المهيمنة عند ظهور الإسلام، الى جانب العربية والإغريقية والفارسية.

تعرض السريان الى الاضطهاد الديني على يد اليهود والممالك الفارسية والرومانية، ما أدى الى تمحورهم حول عقيدتهم الدينية، والتصدي للدفاع عنها أمام مخالفيهم من المذاهب المسيحية الأخرى، وتعمقوا بدراسة اللاهوت، فكانت الأديرة أشبه بالجامعات المنتظمة، والتي غالباً ما تصاحبها المدارس الدينية، لا سيما أنَّ التنافرات المذهبية تفاقمت بعد مجمع افسس المسكوني عام 431م واختلافهم حول الاقانيم وطبيعة السيد المسيح.

وكانت ذروة اضطهاد السريان أبان مسعى الامبراطور “هرقل” لفرض المذهب الملكاني الذي تتعبد به الامبراطورية الرومانية، وقد اعتلى هرقل عرش الامبراطورية للفترة 610م/ 641م، وهو “عظيم الروم” الذي تذكره مصادر السيرة النبوية على لائحة من دعي للإسلام، أي أنَّ سني حكمه زامنت الفترة التي شهدت تدفق الفتح الإسلامي للبلاد التي يقطنها السريان، الذين سيستقبلون الفاتحين المسلمين بالارتياح والمؤازرة، ونظروا إليهم كمنقذين لهم من نير هرقل والأكاسرة.

لذا فإنَّ الدوافع الدينية والنفسية والقومية متوافرة لاندماج السريان في المجتمع والدولة الاسلامية الفتية، بل انهم حاربوا الى جانب المسلمين، وانخرطوا في المؤسسات الإداريَّة والماليَّة للدولة، وشغلوا أعلى المناصب فيها، وبالوقت نفسه، حظي السريان بالثقة والاحترام عند الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والعباسية، لقوا المعاملة الحسنة من لدن قادة الدولة الاسلامية، إذ إنَّ السريان كانوا معروفين بين أوساط العرب قبل الإسلام، ولم تكن الجزيرة العربية خالية من التواجد المسيحي، بل أنَّ بعض القبائل العربية كانت قد تنصرت منذ القرن الأول الميلادي، إنَّ هذه العلاقة الإيجابية وفرت للسريان المناخ السليم للتعبير عن آرائهم والدأب على الكتابة في شتى مشارب المعرفة، وإنجاز المؤلفات المهمة في العقائد والحكمة والتاريخ، وقد حملت المدونات السريانية أهمية كبيرة، تكمن هذه الأهمية في منظورها المختلف عما جاءت به المصادر البيزنطية واللاتينية، وقد يكون مرد ذلك عائداً الى سببين، الأول أنَّ السريان وقعوا تحت الحكم الإسلامي في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، (بداية القرن الأول الهجري)، والسبب الثاني هو أنَّ السريان لم يكتبوا عن الصراع العسكري وحده، بل تعدوه الى نقل الحوادث التاريخية التي عاشتها الامبراطورية الإسلامية التي هم تحت كنفها، وكانت لهم علاقات مباشرة مع المسلمين، سوقة وحاكمين، الى درجة انخراط عددٍ منهم في الجيش الإسلامي، هذه الحالة وفرت عنصراً مهماً منح التواريخ السريانية مصداقية أكثر لدى المحققين، لأنها روايات كتبت بأقلامٍ معاصرة للأحداث الإسلاميَّة، وبتعبيرٍ آخر، روايات ابنة زمنها، دُوّنت وحُفظت في خزائن الكنائس ودور العبادة، وتناقلها مؤرخوهم الأوائل، حتى وصلت الى المؤرخ (ميخائل الكبير) المتوفى (595 هـ،1199م) الذي اختاره الكاتب (محمد مجيد بلال) غرضاً للمقارنة بين تاريخه المعروف (تاريخ ميخائيل الكبير) وبين أهم كتب التواريخ العربية الإسلامية على الإطلاق، ألا وهو “تاريخ الرسل والملوك” لمؤلفه أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ت (310 هـ، 923م) والمعروف بـ(تاريخ الطبري).

إنَّ هذه المقارنة رفدت المكتبة العربية برأيٍ تاريخيٍ جديد، صاحب الرأي من خارج عائلة المؤرخين الإسلاميين، فهو لا يهتم بالتابوات الإسلامية، يتعامل مع الشخصيات بحيادية الراوي بعد تجريدها من المقدس، يحللها بحرية وجرأة تامتين، وهذه المقارنة، منتجة لرصيدٍ معرفي جديد، لأنَّ السريان دوّنوا التواريخ قبل العرب بكثير، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر، التغطية التاريخية للكتاب (الجزء الحادي عشر)، فهو يغطي بدايات ظهور الإسلام حتى نهاية العصر الأموي.

ولا بُدَّ لنا من التسليم، بأننا لو اقتصر اعتمادنا على السرديات التاريخية العربية الكبرى لفهم التاريخ الإسلامي، والتي كتبت بعد قرونٍ من زمن وقوعها، فإنَّ اعتمادنا سيكون غير كاملٍ، ومن غير المعتاد أنْ نوفق بالحصول على بيانات مهمة لفهمٍ أفضل للتاريخ الإسلامي، ويفوتنا الكثير من إدراك التصور المسيحي للإسلام المبكر.

لقد بينت المصادر التاريخية السريانية التي كتبت بالعصر الأموي، تحولات واضحة في التعامل الفكري مع الآخر “المسلمين” فقد تعاملوا مع الإسلام ككيانٍ ديني مستقل، خلاف تصوراتهم الأولى التي أبرزتها (عقيدة يعقوب) المشككة بأصالة الإسلام، والتي انتهجتها المدونات البيزنطية، بينما أيقن السريان بأنَّ الفاتحين الجدد أصحاب دين مختلف عن المسيحية على الرغم من المشتركات الدينية الكثيرة.

وهذه بحق ثمرة مما جاء به الكاتب “محمد مجيد بلال” في كتابه الموسوم “الإسلام المبكر في التواريخ السريانية” * وهو دراسة مقارنة بين تاريخ الطبري وتاريخ ميخائيل الكبير، اعتمد في كتابته منهجين؛ الوصفي والتحليلي كل حسب لزومه في بناء الكتاب، متحرياً تطور علم التاريخ عند العرب وما بلغه من شأو في سِفر الطبري، بعد أنْ كانت أقدام المؤرخين السريان قد رسخت في كتابة التاريخ منذ القرن السادس الميلادي، لا سيما تحولهم من كتابة سير الشهداء والقديسين الى توثيق الوقائع التاريخية، قبل أنْ يدب الوهن والانحدار في عموم الأدب السرياني في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) وهي الفترة التي شهدت التطور الكبير في كل مفاصل الثقافة العربية الإسلامية ومنها كتابة التواريخ الكبرى، وكان من مقوماتها، اعتماد اللغة العربية في الكتابات الرسمية، والتي بدأت في عهد عبد الملك بن مروان، ما قاد الى ارتفاع مستوى التعليم وجعل الحكام المسلمين يقلصون الاعتماد على السريان.

ميخائيل الكبير وتاريخه

ولد ميخائل السرياني المعروف بـ (ميخائيل الكبير أو العظيم) عام 1126م ــ 1199م، في بلدة تركية قريبة من نهر الفرات، لقب بالكبير تمييزاً عن ابن أخيه ميخائيل الصغير أو نتيجة أعماله الكبيرة في إدارة الكنيسة، غزير التأليف، كتب في الدين والجدل والتاريخ والأدب، لكنَّ كتابه في التاريخ هو الأكثر أهمية في ما كتب، وهو مكتوبٌ باللغة السريانية بواحدٍ وعشرين كتاباً، استقاها من مصادر باللغة اليونانية ومصادر باللغة السريانية، وكما هو واضح، فإنه لم يعتمد على المصادر الإسلامية في كتابة تاريخه، بل اقتصر على المصادر المسيحية والمدونات التاريخية السريانية موزعة بين محاور رئيسة ثلاثة؛ سير الشهداء والقديسين في الذين قضوا تحت حكم الممالك الرومانية والفارسية، وتاريخ الاديرة، والتاريخ العام، وقد سلك كغيره من المؤرخين السريان، بكتابة مرويات من سبقوه من المؤرخين وإضافة ما يعاصره من أحداث.

يربط ميخائيل الكبير، الحلقات التاريخيَّة بشكلٍ اعتباطي، من دون التطرق الى الأسباب وتحليلها، ويميل الى عرضها بشكلٍ عاطفي ذي ميولٍ قومية أو عاطفية، مع التركيز على الخوارق والشخصيات ذات المواهب المذهلة والتسليم المسبق بواقعية الأحداث الخرافية القديمة، ولم يوظف ثقافته بالفلسفة اليونانية مثلما وظفها في الجدل العقائدي، لكنَّ حولياته جاءت محملة بالعذوبة اللغويَّة والاختصار، يشوبها تركيز الاهتمام بالجانب العسكري، تاركاً الجانب الحضاري من دون اهتمام. 


منهجا الطبري وميخائيل الكبير في كتابة تاريخيهما

نهج الطبري في كتابة تاريخه منهجين، الموضوعي (الأفقي) لما قبل الإسلام، والحولي (العمودي) للعصر الإسلامي، وبنى تاريخه على فئتين من المصادر، أخبار شفاهية ومصادر مكتوبة، ومنهجه هو منهج عربي إسلامي بامتياز، فقد جاء المنهج الحولي نتيجة للتطور الثقافي في الدولة والمجتمع الإسلاميين، وقد نضج هذا المنهج على يد الطبري نضوجاً جلياً عززه بمادة غزيرة ونظرة ثاقبة حتى أصبح تاريخه أهم كتب التاريخ العربية الإسلامية وأمسى منهجاً ومنهلاً لمن لحقه من المؤرخين الذين استندوا على قاعدة معلومات تاريخية رصينة.

بيد أنَّ المؤلف يرى الطبري، قد غلبت عليه الرواية العربية الإسلامية التقليدية، واستثنى بعض المصادر التي كتبت قبله، لأنه يختلف مذهبياً مع مؤلفيها، مثلما فعل مع الواقدي وهو مؤرخ حصيف، أما ميخائيل الكبير فقد تشبع بالثقافة التاريخية والفلسفية للديانة المسيحية.

وما دمنا في معرض المقارنة بين المؤرخين وكتابيهما، فإنَّ دراسة (محمد بلال مجيد) قد أسفرت عن مجموعة من النتائج بوّبها على وفق المحاور التالية:

1. التباين في الغاية والجمهور:

كتب ميخائيل تاريخه بدافعٍ ديني قومي، مستهدفاً جمهور مسيحيي الشرق وكنيسته، أما غاية الطبري فهي الترغيب بعمل الخير وجمهوره هو المسلمون.

2. أسلوب منهج المعالجة التاريخية:

نهج الطبري منهجين، هما الحولي والموضوعي، بينما سلك ميخائيل منهج الكتاب المقدس والحوليات البيزنطية.

3 . الروايات والرواة وحجم الموضوع:

عُرِف الطبري بتعدد الروايات للخبر الواحد، واختياره راوية بعينه بعض الأحيان، ويقدم السند الدقيق لأخباره متشبهاً بأصحاب الحديث، أما حجم الموضوع، فيختلف عنده حسب تقديره لأهميته، ونرى التوازن والاختصار في حجم الموضوع عند ميخائيل ونقل الخبر بشكل مباشر وبلا أسانيد.

4 . الاعتناء بالتاريخ السياسي والعسكري من دون تسجيل الاحوال الاجتماعية:

هكذا هي مادة الطبري في كتابة التاريخ، ولكننا نجد عند ميخائيل بعض الإشارات التي تبين حياة المسيحيين في كنف الدولة الإسلامية، ويتشابه المؤرخان في تفسير مفهوم التاريخ، أنه تعبير عن المشيئة الإلهية عند الاثنين.

ويخلص المؤلف الى أنَّ هذه الدراسة، تفتح الأبواب أمام الدراسات الأكاديمية والعلمية لإعادة قراءة المصادر التاريخية السريانية، لأنها حملت الكثير من الأحداث التاريخية التي تغافلتها مصادر التاريخ الإسلامي، وعززت ترصين ثغراتها، لا سيما في ما يتعلق بالفتوحات الإسلامية للبلدان التي يقطنها السريان، وسلطت الأضواء على رجال الفتوح مثل ابو الأعور السلمي، الذي أهمله الطبري لعلة دينيَّة، كما أنها أظهرت الامبراطور الروماني “هرقل” بشكلٍ واقعي بعيد عن الأسطرة والتزويق، أما السمة الغالبة على تفسير الفتوحات فإنَّ المصادر التاريخية السريانية ومنها تاريخ ميخائيل الكبير، قد عللت تلك الفتوحات بعللٍ غيبية، وما انتصار المسلمين على الفرس والرومان، إلاّ عقوبة من الله، فإنَّهم قد طغوا وظلموا العباد وأفسدوا في البلاد.

إنَّ هذا الجهد الأكاديمي الذي قدمه الباحث محمد مجيد بلال، يأتي ضمن الجهود التي تنطلق من الحاجة الى معرفة ما كتبه المؤرخون من غير المسلمين عن تاريخ الإسلام المبكر، وأنَّ الباحث قد تلمس هدفه في مئات المصادر والمراجع العربية والأجنبية، فجاءت رسالته موفقة في الإجابة عن أسئلة فرضية البحث، وأضافت مصدراً مهماً للمكتبة التاريخية العربية، زاخراً بالمعلومات والهوامش التوضيحية التي يتطلبها سياق البحث الأكاديمي العلمي الرصين.


* محمد مجيد بلال، الاسلام المبكر في التواريخ السريانية، دراسة مقارنة بين تاريخ الطبري وتاريح ميخائيل الكبير، ط1، دار الرافدين، بيروت، 2015