البَحث عَنْه

ثقافة 2023/04/19
...

ناظم مزهر

أخيراً تَذكَّرني صَبري شلش وأجابَ، بَعدَ كُلِّ هذه السنين، على الرسائل التي قد بَعثتها إليه على شَتّى العناوين . جَاءَ في الرسالة المكتوبة بخط رديء إنه يريد معرفة أخباري وأخبار قريتنا النائية على مشارف الصحراء، ويطلب مني المجيء إلى العاصمة بُغْية تشغيلي في مقاولاته الإنشائية وأن عليَّ تصديقه هذه المرَّة، ونسيان أكاذيبه الصبيانية القديمة بَعدَ أن حالفه الحظ  أخيراً و أصبح غنياً من أرباب العمل.

كُنْتُ قَدْ قِمْتُ مؤخراً بسفرتيّن غير هذه، قابلت فيها اثنين مِمَّنْ يحملون اسم صَبْري شلَش من دون أن أجد ضالَّتي لأن الاسم الثاني لكليهما كان ( شلاش)، وهو السهل التمييز بين عشرات مشابهيه كون رأسه الكبير مِن علاماته الفارقة . ويبدو أنَّ ثَمَّة خطأ ما؛ قال الأصدقاء القدامى مِمَّنْ يهمهم العثور عَليهِ، ذلك أنَّ كثرة عناوينه واختلافها وعدم معرفتي بالعاصمة تُعَدُ سبباً لهذه المتاهة، وخيرٌ لي مراجعة الغرف التجارية ودوائر الضريبة مادام الأمر يتعلق برجل أعمال مثله . وها أنا عازم هذه المرَّة، إمّا العثور عَليّهِ وإمّا التخلِّي عن فكرة البحث عنه .

وصَبْري شلَش هذا أكذب إنسان عرفه حوض الفرات الأوسط مُنْذ أن كُنّا معاً على مقاعد الدراسة الابتدائية، فلو قُدِّر لَكَ اللقاء به تِلْكَ الأيام وسألته إن كان قَد رأى حفَّاري القبور عائدين لأجابك على الفور أنّ نصفهم لن يعود اليوم بَعدَ انهيار سراديب الموتى عليهم، وهو هناك و رأى ذلك بأمِّ عينيّه وقَد أُصيب بواحدة مِن الحجارة المتطايرة ، بَلْ إنه سيكشف لَكَ عن ذراعه ليقول لَكَ أنظر إلى هذه الكدمة الزرقاء إن لَمْ تصدق، و إذا ما حلّ الغروب وعاد الجميع ، ستكتشف أية كذبة كبيرة تِلكَ التي قذفها صَبري شلَش. كذّاب مِن طراز فريد يجعلك تصدقه مُنْذ اللحظات الأولى، ولو إلى حين .

أتذكر ذات يوم، كُنّا نقرأ تحت مصابيح أعمدة الكهرباء استعداداً للامتحانات النهائية للمدارس المتوسطة. حَدّثَني ونحن نفترش أرض زقاقنا المتربة، قائلاً إن نسراً هائلاً قَد هبط على سطح دارهم نهار اليوم وإنه تشبث بإحدى ساقيّه مثل سندباد وطار به إلى ارتفاع شاهق ومن هناك رأى مئذنة جامع القرية مثل قلم رصاص صغير حَتَّى أن الغيمات التي مَرَّ بِها في أعلى السماء قَدْ بللته ؛هكذا جعلني أُصَدِّقهُ بسرعة، فتوسلت إليه أن يخبرني فيما لو عَادَ النسر ثانيةً. أخرج لي ريشة بلون الذهب قائلاً: إن النسر منحه الريشة هذه وبشَّره بأنه سيكون واحداً مِن أغنياء البلد و أنه إذا ما تحقق لَهُ ذلك سيرسل في طلبي أينما قذفت بي الأيام وأكونُ أولَ مَن يُغمر بكرمه مِن أبناء قريتنا التي أوشكت أن تغمرها رمال الصحراء المتاخمة .

كُنّا صغاراً نتلهَّف إلى حكاياته التي ينسجها في مخيلة رأسه الكبير. سمعت أمه ، ذات يوم، تقول لأمي عِنْدَ ثلمة الجدار الطيني الفاصل بين دارينا، إنها ابتليت به وبرأسه الآخذ بالكبر مِن كثرة الأكاذيب المتناسلة فيه .

 كُنّا نتحلق حولهِ في الزقاق وهو يفرض علينا حكاياته كنوع من زعامة مخيلته وهو الذي يكبرنا سناً، لكن رسوبه المدرسي جعلنا نلحق به في الصف الرابع الابتدائي وعرفنا وقتئذٍ مدى غبائه في الدروس؛ معلم الجغرافية ينادي عَليّهِ ساخراً، تعال يا صبري وأشرح لنا كيف ولماذا تهب العواصف على جنوب بلدنا ؟ يقف صَبْري شلَش ويقول بهدوء الواثق مِن نفسه : إن ثَمَّة جبابرة يتصارعون في الصحراء، و لَمَّا يحتدم النزال، تهبُ مثل هذه العواصف العملاقة ؛هؤلاء الجبابرة يسكنون باطن الأرض ، بَلْ إنَّ موطن البعض منهم السماء السابعة وما صفير رياح السموم صيفاً إلا مِن صَيحات غضبهم . وحين سأله معلم التاريخ عن الأمويين أجابه إنَّهم من سكان أمريكا الجنوبية، فأمَرَنا المعلم بالضحك عليه.

كُنّا نصغي إليه متشوقين ولا نريد أحداً أن يفسد علينا متعة ما نستمع إليه مِن تِلْكَ الحكايات والمفارقات التي ما زالت راسخة لا في مخيلتي فقط إنَّما في مخيلة جيل من أبناء قريتنا التي طمرتها رمال المقابر و لَمْ يبق منها غير أشباح معفَّرة بالرمل الأصفر . حَتَّى عندما كُنّا نأوي إلى الفراش نجد أنفسنا سابحين في تِلْكَ العوالم البعيدة التي يصفها لنا صبري؛ ساطعة الأنوار نلتحف ضياءها وننام على نعومة ريشها الوثير ثم نغرق في مياه كنوزها الرقراقة بعيداً عن جفافنا المترب .هناك كُنّا نرى أنفسنا ترفل بالحرير و نتألَّق بوجوه شبعانة مثل صبيان المدن الكبيرة. هناك نجد أنفسنا جميعاً مدللين وقد تحول آباؤنا فجأة إلى مخلوقات تغدق علينا بلا حساب في أعياد لا نهاية ، نقطف تيناً ورماناً مِن بساتين الأحلام، بَلْ نمتطي فيها أزهى الدراجات الهوائية تحت ظلال باردة بعيداً عن وهج الصحراء ووحشة المقابر ونهيق الحمير، وأنَّ أمهاتنا قَد أسفرن عن وجوه فاتنة غير تِلْكَ الوجوه التي لفَّحتها الشمس ، لا صفرة للموت هناك ولا للتراب، إنَّما الدنيا تقطُر بياضاً مِن عسل مصفَّى فوق موائد عليها ما لذَّ وطاب .و في صباح اليوم التالي تنطفئ كل تلك الأحلام و تفترش عجيزاتنا ذلك الهجير المترب حيث كُنّا نراقب آباءنا يتنكَّبون معاولهم و يهمسون بأدعية الرزق.

ذات صباح، فُوجئنا بصَبري شلَش تحت ركبتيّ أمه التي بركت على رقبته وراحت تنتف لَهُ رأسه نتفاً لا رحمة فيه. في البدء تصورنا أنها اكتشفت واحدة مِن خلايا القمل المعششة في فروة رأسه، و لَمَّا كانت تمسك برقبته بدا لنا مثل دجاجة في طريقها إلى الذبح، ثم سحلته مِن أذيال ثوبه الممزق إلى فناء الدار .تسلقنا الجدار لنرى ما سيحل بصاحبنا . لاشك في أنهم اكتشفوا واحدة مِن أكاذيبه، إذ خرجت أخته الكبرى وراحت تصب جام غضب عنوستها على عجيزته بمحراث التنور وكنا نسمع صدى تِلْكَ الضربات، وما أن خرج أبوه مِن غرفته حَتَّى انضم إليهما يلوّح بحزامه الجلدي وراح صَبري يستغيث، و أبوه يلعن اليوم الأسود الَّذي رُزِق فيه بهذا الولد. في البداية لَمْ نعرف ما الَّذي فعله حَتَّى يتعرض إلى ذلك القصاص الموجع . وبعد يومين خرج إلينا تملأ الكدمات الزرق وجهه وساعديه وقال دون أن يسأله أحد،: إنه سرق الديك الأحمر الذي يوقظنا بصيحاته صباحاً وأعطاه للبدوي بائع الملح مقابل أن يجلب لَهُ رَبابة. و صَبري شلَش هذا لَهُ قدرة عجيبة على العزف مثل قدرته على الكذب .بَعدَ أن جلب لَهُ البدوي  تِلْكَ الربابة تصاعد ذات مساء صيفي من أوتارها ذلك النحيب الحزين وسكت الجميع فوق سطوح دورهم الطينية ، كأنَّ نسمة باردة هَبَّت مِن ذلك الهجير الَّذي تقذف به الصحراء . كان ذلك النوع مِن العزف الَّذي يجعل الدمع يحتبس في عينيك. بكت أمي بحرقة في تِلْكَ الليلة ويبدو أنها تذكرت أهلها في البصرة وحنّت إلى صرائفهم العائمة فوق السباخ الجرداء . لقد أثار عزفه على الربابة شعوراً بالوحدة  استوطنت شعاب القلوب الممهورة بأتربة الحرمان، تِلْكَ الليلة ظل أنين الربابة مسترسلاً في شجنه، عالقاً فوق السطوح كدخان مواقد ((المطّال)) حَتَّى ساعة متأخرة .

أَمَّا أن يكفَّ صَبري شلَش عن الكذب، فهذا مُحال .

 جَاءَ ذات يوم و أقسم أغلط الأيمان أنه رأى أبا ياس حفّار السراديب الذي مات قبل أربع سنين تحت ما انهال من رمالها. يُقسم صَبري شلَش ولَمْ يَكتفْ بهذا القدر إنَّما جَاءَ بكذبة جديدة وهي أن الرجل، الَّذي ظهر، كأنَّما لتَوِّه مِن باطن الأرض، قال له : إن عدد البشر في النار أكثر مما في الجنة . هذا ما أثار غضب القرية كلها. قِيلَ بعدها إنَّ صَبري شلَش قَد عوقب بشد وثاقه مع مرابط الحمير التي تنقل جرادل الماء والجص إلى المقابر . ثم ما لبثت عائلتهم كثيراً حَتَّى تركت القرية إلى جهة مجهولة، قيل بعدها إنهم قصدوا بغداد فلديهم بعض الأقارب هناك بَعدَ أن كثرت المشكلات التي سبّبها ابنهم صبري .

مع أني أصغر منه بسنتين لكني كُنتُ مِن المقربين جداً إليه ؛ كان يبوح لي بأشياء لا يقولها لغيري مِن صِبية الزقاق . مَرَّة في عزِّ ظهيرة قيظ سمعت ثلاث دقات خافتة على صفيح بابنا، هي إشارة بيننا، فخرجت إليه متسللاً، وقال لي إنه يريدني في أمر هام، و لَمَّا اتجهنا إلى أحد القبور المهجورة قال إننا سنودِّع تراب فقرنا إلى الأبد لأنه اكتشف الذهب في كوة هي مِن الصغر بحيث لا يمكن لأحد الدخول إليها إلا مِن ذوي الأجسام الصغيرة مثلي، و لَمَّا أدخلت رأسي راح يهتف لي مشجعاً ،لكن اللمعان الَّذي رأيته في الداخل لَمْ يكن ذهباً بَلْ أعيناً مِن نار لأفاعٍ تكاثرت هناك فانسحبتُ هارباً وهو يركض ورائي متسائلاً عَمَّا إذا كُنْتُ قَد رأيت ذهباً أم لا، فصحت لا .. لا .. لا . ودخلت بيتنا مغلقاً الباب مِن شِدَّة الفزع. 

بات العثور على صَبري شلَش في التسعينيات هاجسي، ليس لأنه أصبح غنياً فقط بل أردت رؤيته حَقَّاً لنعيد ذكرى تِلْكَ الأيام  وأخبره أيضاً عن أولئك الأصحاب الذين جرفتهم عواصف السنين. 

كان البيت الَّذي وصفوه لي هذه المرة مخيباً لآمالي ؛ بابه من صفائح البراميل، جداره رطب ومائل مسنود بجذع نخلة بما لا يتلاءم مع مكانة الرجل الَّذي راسلني وقال إن الحظ قد ابتسم له وأخرجه مِن مكامن الغبار غنياً .حين طرقت الباب متردداً ،خرجت لي امرأة يكاد العوز يقفز من عينيها ليقول خذوني، سألتها عنه فقالت :

“نعم إنه زوجي. خرج هذا الصباح على باب الله حمّالاً في سوق الشورجة. “