المجمع العلمي العراقي.. مؤسسّة لغويّة عليا.. وليست ديوانيَّة شعر

منصة 2023/04/25
...

 أ.د. سيّار الجميل*


كُتب القليلُ عن حياةِ هذه “المؤسّسة” التي ولدت عام 1947، وفي هذا القليل كثيرٌ من الأخطاء والادعاءات التي لم ينتقدها أحدٌ من معشر العلماء في العراق، وقد شاخت هذه المؤسسة اليوم بعد أنْ تجاوزت الخامسة والسبعين من العمر، وإذا كنت قد كتبتُ نقدات عن أوضاعها ومتغيراتها في أكثر من مقال منذ ربع قرنٍ مضى، فمن حقّنا اليوم أنْ نقفَ حيالها كي ننتقد ما آلت إليه ليس طعناً في أحد، وإنما لتصويب المسار الذي اعتمدته، وانَّ تعود الى نهجها الحقيقي الذي تأسسّت من أجله وعلى أيدي رجال من العلماء واللغويين الكبار اسوة بنهج كل المجامع العلمية واللغوية في العالم الحديث.

كتب عبد الله الجبوري كتاباً عن “المجمع العلمي العراقي: نشأتهُ أعضاؤهُ أعمالهُ” ونشره عام 1965، وقد نقل عنه البعض من دون فحصٍ ولا تدقيق، فكلّ النوادي والجمعيات واللّجان التي تأسست من قبل تأسيس المجمع لا تمت بصلة حقيقيَّة الى كيانه ولا الى تاريخه والذي عرفه العراق ورجاله العلماء، وارتبط المجمع مع وزارة المعارف العراقيَّة، ومن يقرأ نظام المجمع العلمي العراقي ذا الرقم (62) لعام 1947، استناداً الى الفقرة السادسة من المادة الأولى من قانون المعارف العامَّة رقم (57) لسنة 1940 سيجد أنَّ هذا المجمع ولد على العهد الملكي ليهتم باللغة العربية وسلامتها وصيانتها ونحت التعابير والمصطلحات الجديدة التي تحتاجها حياتنا المعاصرة، فهو شبيهٌ بمجمع القاهرة (مجمع الخالدين) ومجمع اللغة العربية في دمشق. لقد تشكلّت في المجمع العلمي العراقي لجانٌ علمية متميزة ومختصّة بشأن التأليف والتعريب والمصطلحات وتحقيق المخطوطات وعقد المؤتمرات العلمية، كما وصدرت مجلة علمية رصينة باسمه وتوالى على رئاسة المجمع منذ العام 1948 وحتى الآن كلٌ من الأساتذة: الشيخ محمد رضا الشبيبي 1948 – 1949، ومنير القاضي 1949 - 1953 و1959، وناجي الأصيل 1953 – 1954، ثم 1961 – 1963، وعبد الرزاق محيي الدين 1965 – 1979، وصالح أحمد العلي 1979 – 1996، وناجح الراوي 1996 – 2000، ومحمود حياوي حماش 2000 – 2004، وداخل حسن جريو 2004 – 2007، وأحمد مطلوب 2018 – 2007، وعبد المجيد حمزة الناصر 2018 – 2021، ومحمد حسين آل ياسين 2021 وحتى اليوم.

في العام 1963، تشكلت لجنة لتجديد النظام الداخلي بجهودٍ من وزير المعارف أحمد عبد الستار الجواري ابان عهد البعثيين الأول، وقد حافظ المجمع على أسسه وركائزه وأهدافه مع الاهتمام باللغتين الكردية والسريانية واللغات الأخرى الى جانب اللغة العربية الأم، فدخله علماءٌ جددٌ ولكنْ بقي مستقّلاً عن السلطة السياسيَّة ليؤدي دوره العلمي واللغوي، وبقي العمل سارياً بانتخاب الرئيس وأعضاء اللجان بالانتخاب السرّي بعيداً عن تدّخل الدولة أو الوزارة، وبقي المجمع مهتماً باللغات والمصطلحات والتحقيقات، ويعمل وفق سياقٍ عالي المستوى حتى وإنْ عاش بعض الفترات خاملاً جرّاء الأوضاع الصعبة التي مرّت بالعراق، ولكنْ في العام 1996، صدر قانونٌ جديدٌ من السلطات العليا، أُعيد بموجبه تنظيم المجمع العلمي العراقي وفق قياسات السلطة وسياقاتها السياسيَّة بحجّة توسيع أهدافه بشمول تخصّصات أخرى تقنية وتطبيقية من دون الاهتمام باللغات بحجة إثراء المعرفة الإنسانيَّة لخدمة التنمية الوطنية والقومية، فخرج المجمع عن سياقاته التي عرفتها المجامع اللغوية في العالم.

وأخطر ضربة وجهّت الى استقلاليته بتعيين الأعضاء والرئيس من قبل السلطة العليا، ليغدو المجمع العلمي العراقي مؤسّسة عادية تابعة الى السلطة كبقيَّة المؤسّسات الأخرى، بدخول رؤساء الجامعات والمعاهد الفنية وهم أصحاب مناصب سياسيّة كأعضاءٍ في المجمع، وإدخال بعض من كان يوالي السلطة من أسماءٍ عربيَّة كأعضاء مؤازرين! قال صالح أحمد العلي رحمه الله معلقّاً: «لقد انتهى المجمع في هذه اللحظة»!.

ومضت ثلاث سنوات، فإذا بالمجمع وقد تحوّل الى مجرّد قاعة لإلقاء المحاضرات السياسيَّة التي لا يمكن أنْ يعّلق عليها أحدٌ أبداً! وقت ذاك، نشرتُ مقالاً لاذعاً في صحيفة الزمان خارج العراق عارضت فيه ما جرى للمجمع العلمي العراقي، فانبرى أحدهم لينشر مقالاً ضدّي فتجاهلته لأنني عرفت أنه من أعوان السلطة. ومما قلته في مقالتي تلك: «فجعت المعرفة اللغوية والمجمعية العلمية العربية عندما بدأ هذا المجمع يصدر مجلتّه التي تضمُّ أبحاثاً ضعيفة يكتبها أولئك الذين يحملون شهادات الدكتوراه الهزيلة، ولكنْ ليس بينهم وبين المعرفة أية صلة! وبدت المجلة وقد فتحت أبوابها لكل من هب ودب من أولئك (الباحثين) العرب الضعفاء الذين ليست لهم أية خبرات علمية طويلة، ولا معارف موسوعيَّة ولا قراءات بأكثر من لغة أجنبية، كما وبدأت صفحاتها تستوعب الآراء الأيديولوجية والسياسية التي مهر في كتابتها رجال جدد ومخضرمون من السلطة وكأنهم ينشرون مقالاتهم في صحيفة سلطوية يومية، وكانوا وما زالوا يقومون بإذاعة المفاهيم السياسية التي لا صلة لها بأنشطة مجمعية لغوية ومعرفية بها! كما ولم أجد أيضاً أية معلومات جديدة أو أي أساليب منهجية متطورة أو أي استحداثات لغوية بديلة على صفحات تلك المجلة المجمعية المنكودة، بسبب الأعضاء الجدد الذين تعيّنوا مجمعياً بقرارات سياسيَّة بدل انتخابهم علمياً والإجماع عليهم كما كان يجري سابقاً!».

واستطردت قائلاً: «لما كان أي مجمع علمي رصين ينزع إلى الاستقلالية كونه أعلى هيئة علمية في البلد. ويتجسد ذلك من خلال الانتخاب على أساس المكانة العلمية والشهرة الدولية والكفاءة اللغوية والخبرات البحثية والثقافة الموسوعية عالية المستوى، لا الاقتصار على شهادة التخصص الدقيق.. الخ من الاشتراطات التي لا يمكن أنْ تتوفر في من عيّنوا من قبل السلطات الرسمية العربية كأعضاءٍ في هيئات مجمعية علمية عربية والذين جاء تقلدهم في هكذا مواقع علمية عليا في البلاد من دون أي مستلزمات كالتي ذكرناها، وبدأت سياستهم واضحة في الاضمحلال والضعف، خصوصاً إذا كان من بينهم أناسٌ لا يفقهون من فلسفة العلم وفقه اللغة شيئاً، وليست لهم أية دراية حقيقيَّة بلغة أجنبية واحدة.. كما ليست لهم أي أنشطة موسوعية وخبرات دولية في شأن المعرفة الإنسانية، ولا أي سقف من ثقافة عامة فكيف بالثقافة الموسوعية!» (راجع: صحيفة الزمان، العدد 1065 5 /11/2001(.

من يقارن إصدارات المجمع العلمي العراقي على امتداد تاريخه الرائع حتى 1996، سيجد أنَّه أصدر عشرات الكتب الرصينة في اللغة والمصطلحات والتاريخ وساعد على نفقته في إصدار مؤلفات رائعة، ونشرت مجلته العشرات من البحوث الرصينة وكانت إصداراته السابقة قد اعتمد عليها العالم في موسوعاته ومؤلفاته مقارنة بما أخذ المجمع يصدره لاحقاً وحتى اليوم ويا للأسف الشديد. لقد قام من كان يعمل مديراً لمكتبة المجمع صباح ياسين الأعظمي بنشر كتاب «أعلام المجمع العلمي العراقي» وكتب عن شخصيات مجمعية حقيقية وغيرها ممن تعاقبت بين 1947 وحتى 2004 . 

دعونا نلقي نظرة على هذه المؤسسة التي تحولت عبر 75 عاماً من الازدهار الى الفشل ومن النشاط الى الخمول، وأسأل مجرّد أسئلة موضوعية بسيطة أبغي من ورائها البحث عن علاجات تخصّ مستقبل هذه المؤسسة (العلمية) لا أكثر ولا أقل: هل من العقل أنْ يعلن المجمع العلمي العراقي أنه «مؤسسة ثقافية» – كما وجدت ذلك في مانشيت رسمي على موقعه الالكتروني - وهو أعلى مؤسسة علمية في البلاد؟ هل لا يحسن الفرق بين مصطلحي «العلم» و»الثقافة»؟ هل يدرك المجمعيون العراقيون اليوم قيمة أي مجمع لغوي في البلاد؟ هل من الأمانة أنْ يسمّي المجمع العلمي العراقي نفسه اليوم بـ «مجمع الخالدين»، والعالم كله يعرف بأنَّ مجمع الخالدين هو في مصر؟ ما هذا الاستلاب والتجاوز؟ هل عدمت التسميّات من لدن المجمعيين أنفسهم؟ هل يجوز للمجمع أنْ ينشر «بحوثاً» ضعيفة وتافهة في مجلته اليوم؟ أين التقويم العلمي من قبل اللجنة المختصة؟ أين التحرير اللغوي؟ هل من الأمانة لمجمعٍ عريقٍ يهتم باللغة العربية استضافة أحدهم في ندوة مجمعية والمحاضر لا يعرف في إلقائه الجار والمجرور أمام مرأى ومسمع الجميع؟ هل من الحكمة بمكان أنْ يترك المجمع العلمي مهمتّه الأساسية ليعقد جلسات لإلقاء الشعر وكأنه مقهى أدبي؟ نعم الشعر مملكة العراقيين كما وصفته، ولكنَّ مكانه ليس في المجمع بل في تجمّعات ثقافية أخرى؟ ما فائدة مثل هذه «المؤسسة» اليوم، إذا مات دورها الفاعل وخرجت عن مهامها العليا، وساء وضع منشوراتها كثيراً؟ من جانبٍ آخر، لم أسمع في حياتي العلمية وفي كلّ مجامع العالم اللغوية والعلمية أنْ ينادى رئيسها بلقب «معالي فلان»، فمن أين جاءت هذه (المعالي) التي لا تمت بصلة للعلماء وصفاتهم؟

وأخيراً، أتمنى مخلصاً أنْ يراجع علماء العراق أنفسهم اليوم قليلاً ليسألوا: أين هم من عمالقة عراقيين كانوا بمنتهى العلمية والتواضع والموسوعية: الشيخ محمد رضا الشبيبي ومنير القاضي وهاشم الوتري ومتي عقراوي ومصطفى جواد وناجي الأصيل وجواد علي ونسيم سوسه ومحمد بهجة الأثري وفاضل الجمالي وناجي معروف وعبد العزيز الدوري وصالح أحمد العلي ومحمد جميل روزبياني وعبد العزيز البسّام ومحمود الجليلي وسليم النعيمي وغيرهم.


* مؤرخ عراقي