ميرفت محمد علي: الأدب ابتكار بشري نزيه

منصة 2023/04/27
...

  حاورتها: هويدا محمد مصطفى

ترى الكاتبة السورية ميرفت محمد علي أن الأدب المحلي لم يرتقَ بعد نثراً وشعراً إلى مستوى المسؤولية الجادة في التعبير عن الأزمة السورية، مؤكدة أن الرواية غدت المنافس الأول للأجناس الأدبية المتعارف عليها، لا سيما في السنوات الأخيرة، ويزداد الطلب عليها في دور النشر.

ميرفت محمد علي حفرتْ طريقها الأدبي بعصاميَّة وباجتهاد جَليَّين، نالت جائزة (سيزار سيرانو أخيدو) و(نيلسون مانديلا) للآداب واصدرت العديد من الكتب في القصة والرواية.


• برأيك هل الرواية الآن تأخذ دوراً حقيقياً على صعيد الثقافة العربية؟

- لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ الرواية غدت المنافس الأول للأجناس الأدبية المتعارف عليها، لا سيما في السنوات الأخيرة. يزداد الطلب عليها في دور النشر، فهي الأكثر تلبية لرغبة القارئ العربي، ولقدرتها على الأرشفة والخوض في تفاصيل الحياة، والتنقل اليسير بين الأزمنة والأمكنة والأحداث. فضلاً عن متعة التخيل والتشويق. لكني أجدها ــ والسورية منها بخاصة ــ أقل وفاء لمتطلبات المرحلة الراهنة اجتماعياً وسياسياً، فالروايات السورية اليوم تفتقد إلى عنصري المكاشفة والجرأة في النقد والتقييم لأداء المجتمع السوري، غابت عنها السخرية بظلالها الإيجابية وأعني بها إمتاع القارئ في عمق مأساته، وإضاءة مواطن الضعف والخلل بروح الفكاهة والتندر، فافتقدت إلى الإثارة والتأثير، ونأت الرواية السورية عن المغامرة السردية والمجازفة الفنية فلم تواكب النزعة الحداثية، ولم تشق سبيلاً إلى التجريب مقارنة بالقصة القصيرة وبالشعر والمسرح. وبالمحصلة: وهذا رأي شخصي.. لا أجد اليوم للرواية السورية تأثيراً فاعلاً في القارئ، أو قوة جذب وحضور وإلا.. فجد لي رواية منذ عشر سنوات على الأقل قد أحدثت ضجة إعلامية تنبئ بجدارتها، أو احتفاء نقدياً وتكريمياً يعكس تفوقها وريادتها؟


• الرواية السورية، هل قدمت شيئاً خلال الحرب؟

- ما ذكرته سابقاً يمهد للجواب عن هذا السؤال. صراحة ومع المحبة والتقدير للزملاء الأدباء أقول: لم يرتقِ الأدب السوري بعد نثراً وشعراً إلى مستوى المسؤولية الجادة في التعبير عن الأزمة السورية، وفي تصدير مآسيها بحرفية وبإتقان إبداعيين يتماشيان مع حجم هذه المأساة مع فداحة أضرارها النفسية والمادية.. البشرية والاجتماعية بخاصة. ولم تغص هذه الإبداعات في قرارة العقيدة الإرهابية الفاسدة، وتفضح ضحالتها وتشوهاتها نفاذ المجهر إلى أدق الجراثيم والفيروسات. وعموماً فالروايات التي عالجت الحرب الدامية في سوريا قليلة حال الروايات التي رصدت أحداثاً مماثلة في دول مجاورة كالعراق، والتي واكبت ما يسمى بــ (ثورة الربيع العربي)، فالتقصير في مقاربة الحقيقة في أعمق درجاتها، والنمطية وتذبذب الرؤية، والانفعالية والمباشرة حولت الروايات على قلتها إلى نسخ عن نشرات الأخبار وحديث الصحافة وتقاريرها الجافة. وغاب بالمقابل البعد الإنساني السحيق ومن ثمَّ قوة التأثير في القارئ. وهذا لا ينفي تفوق بعض كتاب القصة في التعبير عن مأساوية الأزمة السورية وظلالها النفسيّة الحالكة مثل القاص سامر أنور الشمالي في قصته (الرصاص الفارغ) والشاعر الباحث الدكتور ثائر زين الدين في قصيدته (مشاهد سوريّة) على سبيل المثال لا الحصر. أما الرواية بظهوراتها الخجولة وبأدائها المتسرّع فوضعت في خانة (رفع العتب) فيما صدر منها.


• متى تكتبين الرواية في زمن تراجع فيه الأدب؟

- (متى؟).. ملفوظ يستدعي الزمن. أكتب الرواية في الوقت الذي تفرض فيه الرواية نفسها عليَّ. لا يهم زمن الكتابة إن كان صباحاً أو ليلاً أو حتى ظهراً. ولا يرتبط بفصل شتاء أو صيف أو بطقس زماني ومكاني معين (ريف، جبل، بحر)، المهم أن تداهمني شهوة الكتابة وتفرض حضورها، بل سلطانها على قرطاسي وقلمي. هذا في ما يتعلق بالشق الذاتي من الإجابة، أما في الشأن الموضوعي فالكاتب يُقبل على الكتابة حين يتوفر دافع خارجي ومحرض قوي على التأليف كأن تتبنى دار نشر ما إصدار أعماله من دون قيد مادي أو رقابي أو فكري، وهذا ما نصبو إليه نحن الكتاب: التمويل والتوزيع للمؤلف على نطاق إقليمي إن لم يكن عالمياً. وحين يجد الكاتب فرصة أو عرضاً استثنائياً لطباعة ولتوزيع أعماله سيبادر حتماً للكتابة من دونما تردد، سواء شهدت السوق الأدبية كساداً وتراجعاً أم لا.


• هل تجدين نفسك في القصة أم في الرواية؟ وأيهما أكثر حضوراً؟

- بالرغم من أنني أبليتُ بلاءً حسناً في القصة القصيرة بشهادة أهم النقاد العرب ومنهم الأديب المصري جمال الغيطاني، والناقد الدكتور نضال الصالح على سبيل المثال. إلا أنني اليوم أتوق إلى فضاء الرواية ومداراتها الخلابة الآسرة، فنفسي تهفو إلى التحلل من قيود الزمان والمكان والفسح الضيقة. وأراني مولعة بالحيثيات وبالتفاصيل وبالتقاط دقائق الحياة وخباياها في مكوناتها البشرية والجغرافية، المادية والتاريخية. وقد صدرت لي مؤخراً رواية عن دار نشر (مها) في مصر حققت المرتبة الأولى في مسابقة الدار للرواية العربية، وستصدر لي رواية جديدة قريباً عن دار (الوليد) للطباعة والنشر والتوزيع، مما حثني على التمسك بالرواية، وأكد سلامة اختياري للجنس الأدبي الذي يشكل صدىً لدخيلتي وترجمة لذائقتي الإبداعيَّة. والذي يعد أكثر حضوراً وانتشاراً اليوم.


• القصة القصيرة جداً.. هل أثبتت حضوراً؟

- القصة القصيرة جداً أو الــ (ق. ق. ج) ظاهرة أدبية حديثة. شاعت في سوريا في عقد التسعينات، وتهافت الكتاب لا سيما الشباب عليها تهافتاً لافتاً وتنافسياً. وكان للأديب أحمد جاسم الحسين، فضل الترويج لمنتدياتها، والتأسيس لمقوماتها وأهمها: التكثيف والاختزال للحدث وللفكرة، والتصوير البلاغي وعدم المباشرة، والقصر (بضعة أسطر)، واختيار عناوين لمّاحة ودالّة وساخرة أحياناً. ولكن قلة من الأدباء السوريين قاربوا هذه المزايا في خطابهم القصصي. وكثير من النقاد الذين تنقصهم الكفاءة تهافتوا على النقد والتنظير 

والترويج لفن القصة القصيرة جداً، مما يفسّر أفول نجم هذا المولود الأدبي مبكراً وسريعاً. 

وكما هو شعر الومضة.. كذلك هي قصة الومضة أو الــ ( ق. ق. ج تحتاج إلى من يمسك بخيوطها الفنية، ويجيد حياكة مسرود قصصي فذّ ومؤثر بلاغياً وذهنياً وجمالياً في القارئ. ولما كان هذا الحائك للنسيج غير متوفر بكثرة، فقد كسدت البضاعة وأفلس التجار والمروّجون مع الأسف. فطبيعة العصر الحديث تتطلب السرعة في الإرسال والتلقي، وتتطلب تطوير وترسيخ لفنون أدبية تفي بهذا الغرض كشعر الومضة والقصة القصيرة جداً، أو قصة (طَرفة العين).


• ما سبب هذا التدافع على كتابة ما يسمى بـ (الشعر)؟ والسعي إلى المنابر، وتراجع القصة عن السنوات الماضية؟

- أكثر ما نسمع على المنابر اليوم بـ (ما يسمى بالشعر)، وقد تراجعت القصة ونكصت على أعقابها، لأنه لا منابر ثقافية للقصة، أنظر إلى عدد المهرجانات القصصيَّة التي تقام في الحواضر العربيَّة.. تكاد تقتصر على مهرجاني (بلقصيري) و (موكادور) في المغرب. والدعوة إلى هذه المهرجانات لا تشمل تكاليف السفر، بل تكاليف الإقامة والإطعام فقط، ناهيك عن الحصار العربي المركز على السوريين بخاصة، وصعوبة الحصول على تأشيرة خروج لاعتبارات سياسية. أما الشعر فحاله أفضل، فمهرجانات الشعر في العراق وتونس ومصر وإيران مزدهرة، وبعضها مشمول بتغطية التكاليف والرعاية الإعلاميّة، مما يمنح الأدباء مبرراً قوياً للتراجع عن الإصدارات القصصيَّة، وللالتفات إلى الشعر (مدلل المهرجانات والمنابر)، حتى ولو افتقد معظم هؤلاء إلى الموهبة الشعرية، فالعلاقات الشخصية ترمم النقص وتشفع لكثير من المتطفلين على البيت الشعري بدخوله دخول الفاتحين المنتصرين. وهذا ما يحدث حالياً.. أسماء لا علاقة لها بالأدب يتوج أصحابها كضيوف شرف في محفل شعري ضخم، أو كنقاد أو كمشاركين في ندوات ومؤتمرات يرصد لها اهتمام كبير، وينطبق عليها القول الشائع: (أسمعُ جعجعة ولا أرى طحناً).


•  كيف ترين مستقبل الأدب؟

- أرى الأدب محركاً قوياً لوجدان الشعوب. يتأثر بها ويؤثر فيها. يؤرخ للمجتمعات وللبشر ويتلقف رغبات الإنسان وأحلامه وهمومه واهتماماته بكثير من الأمانة والوفاء، فيعبر عنها ويترجمها للأجيال الحاضرة والمقبلة بنبل وبسمو يليق بالإنسان صانع الحضارات، ويليق بهذا النوع من الفنون.. (الآداب)، وبهذا المنظور أجد الأدب ابتكاراً بشرياً نزيهاً عظيماً مائزاً، لا يقل أهمية عن أعظم الاختراعات الذرية، والإلكترونية، والميكانيكية، وسواها. بيد أنه ما يزال عند العرب مشكوكاً بأمره، ومقللاً من جدواه ومن رسالته الحضارية السامية. وعسى أن يأتي اليوم الذي يكرم فيه العرب أدباءهم التكريم اللائق، عندها سيتغير وجه أمتنا العربية، هذا الوجه الذي ينفرد صناع السياسة حتى اليوم في تحديد ملامحه. أما صناع الأدب ففي منأى عن التأثير بشعوبهم وبمجتمعاتهم، نتيجة تحييد الأدب عن المسار اللائق به، وغياب الرعاية والاهتمام الرسمي.