جدليَّة التناص المركَّب في {الملك لير وساحرات مكبث}

منصة 2023/05/02
...

  أ.د. حسين علي هارف 

ما الذي يغري الكتاب والمخرجين في المسرح والسينما في نصوص شكسبير التي تكاد تقدم كل يوم في المسارح والسينمات العالميَّة؟ إنه البعد الإنساني لأبطاله والصلاحيَّة الدراميَّة الخالدة على مرِّ العصور لصدقية شخوصها والامكانيات التأويلية المفتوحة على مصراعيها لتكون شاهدة على العصر الراهن وناطقة بلسان حاله وواقعه. ولذا قام العديد من كتاب العالم وعلى مدى عقود وقرون بمختلف أجناسهم وتوجهاتهم بالتفاعل مع هذه النصوص والتشابك معها (اِستلهاما، أو محاكاة، أو تأويلا، أو مشاكسة، أو تدويراً درامياً) مواكبة لعصرهم في تناصات درامية مشروعة وغير منقادة إلى النص الشكسبيري المتفرد بخصوصيته.

لقد ارتكزت العبقرية الشكسبيرية الخلاقة لتُشرف على العالم ومشكلاته ولتوجه الناس نحو تأملات خصبة ذاتية وشاملة في معضلات البشر وتأخذ بيد كل انسان ليحيا بانسجام مع زمنه وعالمه رغم احتدامه واضطرابه.

لقد أهدت لنا العبقرية الشكسبيرية نصوصاً خالدة تصلح لزمننا وللازمان اللاحقة لنا. ومن بين هذه النصوص (طبعا إلى جانب هملت ومكبث) نص "مأساة الملك لير" التي تنتهي بالحماقة وتنتهي بضياع المُلك بعد تفكيك المملكة وموت الجميع بأسلحة التآمر وبفعل شهوة السلطة وجنونها، لعب كاميران رؤوف دور (المُعد) المؤلف عبر اختياره لنص شكسبيري خالد ومتداول ودائم التناول سينمائيا ومسرحيا، لكنَّه لجأ الى تحقيق عملية تطعيم درامي من خلال زرع شخصيات وحوارات مستلة من نص شكسبيري آخر في ثنايا النص الأصل (لير) وبذلك حقق ما يمكن توصيفه بتناص مزدوج سيتحول بفعل نص العرض (المؤول) الى تناص مركّب. وفقا للطرح الذي يرى أن التناص تداخل النص مع نصوص أخرى قديمة أو معاصرة وبطريقة تبين فيها قصد المبدع من الافادة من النص السابق، فإن كاميران قد أخذ شفراته واثار وشذرات من النصين الشكسبيريين فثمة علاقة نصية ظاهرة وأخرى مستترة تحيلنا إلى النص الشكسبيري. 

لقد اعتمد نص العرض المقدم على النص الشكسبيري (لير) بمعظم شخصياته وأحداثه المركزة والاساسية في المتن الحكائية، لكنه في الجانب الاخر استعار شخصيات شكسبيرية من نص آخر هنّ الساحرات في مكبث، فضلاً عن أجزاء حوارية من النص ذاته (مكبث).

اقتطع كاميران أجزاء محدودة من النص الثاني والتقط شخصيات منتقاة لدعم تأويله الجديد مع محاولة إيجاد علاقات درامية جديدة بين الشخصيات المكبثية والليرية ليخرج بنص عرض حقق تداخلاً وتقاطعاً مع وبين النصين.

أي أن ما عمله كاميران رؤوف هو عملية انتقاء، ثم اقتطاع فتحويل، ثم تكثيف وتعميق. من هنا يتحدد التناص داخل وعي المؤلف المخرج لينتقل ويتحدد داخل وعي المتلقي.

إن ما قام به رؤوف مع النصين هو امتصاص وتحويل سبقتها عملية مونتاج وتركيب درامي. فلقد كانت روح شخصية الليدي مكبث حاضرة في نص العرض رغم غيابها المادي. ولقد استعار المخرج أجزاء حوارية حيوية من شخصية الليدي مكبث في مونولوگاتها القصيرة، ووضعها على لسان البنت الكبرى گورونيل فكانت معادلاً موضوعيا لليدي مكبث المتعطشة للسلطة وللدماء واقتراف الجريمة 

السياسية. 

بل إن حواراً لمكبث نفسه قد ورد على لسان غونريل التي تلبستها الروح المكبثية الطموحة والمشبعة بشهوة السلطة (ليست العبرة في أن تكون ملكاً إنما العبرة في أن تكون آمناً). هكذا صرّحت غونريل بعد أن حوّلها المخرج شخصية مكبثيَّة، هي مزيج من مكبث السيد مكبث السيدة. لقد حقق كاميران رؤوف تناصا جدليا مركبا عبر وضعه نصيّ شكسبير في تحاور واشتباك درامي - فكري توّلد عنه نصاً جديداً يحمل فكر الكاتب المخرج من دون أن يغادر روح النص الشكسبيري. غير أننا لا نرى كل ذلك مبرراً ليختار كاميران رؤوف اسما جديداً لعرضه (الملك لير وساحرات مكبث) وإن ألقى بساحرات مكبث في أتون نصه المعتمد بشكل أساس على الملك لير. فالساحرات وإن كان لهن حضور عياني وظهور متكرر لثلاث مرات وفي مواضع محددة، فإنهن بدَوْن وكأنهن شخصيات درامية جديدة من وضع مؤلف العرض. وفي إطار تحديد جدوى ومستوى وشرعية عملية التناص التي قام بها كاميران مع النصين الشكسبيريين (الرئيس والموازي) لير ومكبث، نستعير مقولة لشجاع العاني (إن التناص قراءة لنصوص سابقة وتأويلها وإعادة كتابتها ومحاورتها بطرائق عدة على أن يتضمن النص الجديد زيادة في المعنى على النص أو النصوص السابقة التي

حاورها). 

فهل فعل كاميران رؤوف ذلك؟ هل حقق عملية تأويل وتفكيك للنصين لبناء نص عرض جديد؟ الجواب ووفقا للمعطيات التي تم ذكرها، نعم. لقد حقق المخرج بنص عرضه تناصا إيجابياً واعياً ومثمراً أحال به النصين الشكسبيريين إلى الواقع السياسي العالمي الراهن المُبتلى بسلطات حمقاء ومتهورة وعنجهية تسودها الجريمة والاستغلال واستلاب الحقوق والارادات في ظل وجود قوى كبرى مهيمنة، قوى وتجمعات ذات طابع امبريالي تُمعن في شهوة التسلط وإذكاء الصراعات وإشعال الحروب وسلب الشعوب إراداتها والتحكم بمقدراتها. لقد كان ظهور ساحرات مكبث المتكرر يكشف عن أنّهن وراء الأحداث تخطيطا وتحفيزا وإشرافا. الساحرات اللواتي يمثلن الوجه القبيح للجهات التي تحكم العالم وتتحكم بشؤونه السياسية والاقتصادية. 

ولعل المخرج يشير هنا إلى جهات قد تكون امريكا أو الماسونية العالمية واتباعها ومؤسساتها. ولذا فقد بدأ المخرج عرض الملك لير بساحرات مكبث وهنّ يجهّزن مسرح التآمر والجريمة وتوزيع السلطة من خلال فعل النجارة لتأثيث مستلزمات التآمر وديكور السلطة وكواليسها وشخوصها والمتصارعين حولها. وقد تكرر حضور الساحرات عند اللقاءات التآمرية بين الاختين الجاحدتين الطامعتين وكأنّهن (الساحرات) يتفقدن أدواتهن وعناصرهن التنفيذيَّة الإجراميَّة.

تضافرت عناصر العرض السينوغرافية لتحقيق مشهديَّة باذخة الجمال، ومكتنزة بالدلالات السيميائية. حقق مصمم المنظر المسرحي اختزالا فنياً عبر اقتصاده واكتفائه بقطع ديكوريَّة متحركة بشكل ديناميكي، وتم توظيفها بشكل متقن ودقيق. بدا الديكور ظاهريا بطابع كلاسيكي يميل إلى الفخامة والجلال.. ثمانية أعمدة رخاميَّة مرفق بها ثمانية شواخص حديديَّة مفتوحة ومطرزة بشكل زخرفي يشير إلى شكل العنكبوت. وقد حقق المخرج بهذه المفردات المتحركة التحولات المنظرية من مشهد إلى آخر بسلاسة، فكانت تتشكل في كل مشهد لتحقق لنا بيئة المنظر للمشهد (قاعة عرش/ غرفة نوم/ صالة/ بوابة القصر.. الخ).

وإلى جانب جماليات المفردات المنظرية بطابعها الكلاسيكي الذي يميل إلى الفخامة والصلادة والابهار فقد حملت دلالة سيميائية تشير إلى الضعف المستتر والوهن الكامن والمرشح للتداعي والانهيار عبر الوحدة الزخرفية التي تشير إلى شكل بيت العنكبوت. وهنا إشارة إلى أن بيت السلطة وقصر الحاكم يحمل بين أركانه الشاهقة الصلدة عناصر ضعفه وتآكله وانهياره المحتوم. إن أوهن البيوت لبيت السلطة الحمقاء المتعجرفة الغاشمة التي لا تُبنى على أسس العدل والحق. وقد عززت جماليات المنظر المتحرك والمتشكل إضاءة درامية محسوبة من حيث الشدة والتركيز واللون. 

غير أن هناك ضربات لونيَّة عشوائيَّة بيضاء افتقدت إلى الجودة في التنفيذ وإلى التناسق وكانت تبدو أقرب إلى الخربشات العشوائيَّة وكأنَّها نفذت على عجل وفي الوقت الضائع. وربما لو كانت حافات القطع الديكوريَّة سوداء من دون هذه الضربات اللونيَّة لحققت بتضادها اللوني تناغماً مع بياض الأعمدة الرخامية الموشحة بضربات لونيَّة خفيفة سوداء. 

اقتربت أزياء الشخوص الرجالية من الدقة التاريخية تصميما ولونا وكشفت عن طرازيتها. وانسحاب هذا المنحى على الأزياء النسائية نسبياً، إذ إنها قد افتقدت إلى شيء من الدقة الطرازية، وكانت تكشف من خلال خاماتها وبعض ألوانها ولمعانها عن ثقافة كردية ترتبط بطبيعة الزي الكردي النسائي. وقد لفت انتباهي فقر ما كانت تنتعله الشخوص الثانوية ولا سيما غير الناطقة، وبما لا يلائم فخامة الأزياء عامة التي انحازت بشكل واضح للشخصيات المحورية، ولا سيما التي اضطلعت بدور البطولة. موسيقى العرض واكبت الفعل الدرامي المتصاعد معززة بمؤثرات صوتيَّة مناسبة، وبذلك تكون الموسيقى قد حققت وظيفتها الدراميَّة 

والتعبيريَّة. 

الممثلون كانوا منضبطين ديناميكيين حافظ كل منهم على إيقاع شخصيته وفقاً لأبعادها المرسومة شكسبيريا والمحددة مرة أخرى إخراجيا، وشمل هذا الايقاع ما هو داخلي منه، وما هو حركي وصوتي. وبالنتيجة فقد أسهموا مجتمعين في خلق إيقاع مسرحي عام للمسرحية اتسم بالشد والتصاعد، فلم يتركوا فرصة للجمهور للانشغال بما هو بعيد عن خشبة المسرح. تميز منهم ممثل شخصية بهلول أجين حمه وممثلة شخصية البنت الكبرى التي اتسم اداؤها بصرامة وجفاف عاطفي يعكس قسوة وجلافة هذه الشخصية المأزومة المنحرفة.

لقد أفاد المخرج من سعة جغرافية المسرح الوطني وقام باستثمارها إخراجيا من خلال نشر مفرداته المنظرية ورسم ميزانسينات حركية واسعة النطاق.. فصلت دراميا وجماليا بين مشهد وآخر وبين منظر وآخر وبين شخصية وأخرى. ولقد حقق المخرج إلتماعات إخراجيَّة في بعض المشاهد الرئيسة ذات التركيز الدرامي العالي كما في مشهد توزيع أقسام المملكة الذي رسم المخرج لحظته الأولى محاكاة لمشهد العشاء الأخير، فضلاً عن المشهد الذي وجد لير نفسه في العراء.. (أزفي يا رياح..) إذ تحركت أعمدة السلطة التي كانت تهتز لأنَّ أركان السلطة قد غادرته، إلى جانب المشهد الأخير الذي تم تأثيثه سينوغرافيا وموسيقيا بإتقان لنشهد لير وهويجر نعش ابنته بعد أن تهدمت أمام عينيه وأعيننا أركان مملكته وانهارت أعمدتها المتآكلة الهشة في جوهرها.

لقد أبدع الفنان كاميران رؤوف (معدّاً)، (مؤلفا) وأبدع من بعدها مخرجاً واعياً، ومقتدرا مثلما أبدع في نهاية المطاف ممثلا استأثر لنفسه بدور البطولة (الملك لير) وحسنا فعل؛ فهذه الشخصية كانت تطابق ما وصلت اليه شخصية كاميران بكل أبعادها الطبيعيّة والاجتماعيّة والنفسيّة، وأُضيف إليها الفنيّة بما وصل إليه من نضج وخبرة اجتماعية وفنية أسعفته وساعدته على حمل أعباء هذه الشخصية متحولة الأطوار والحالات الشعورية، إذ قدّم كاميران تحولات أدائيَّة (جسدياً وصوتياً وحركياً) في شخصية لير، ملكا قوياً متعجرفا مندفعا، ثم ملكاً مخدوعا ومستدرجاً، ثم ملكا مصدوما وحائرا، ثم خائرا وضعيفا ومُهانا، ثم مجنونًا هائماً. وقد منح كاميران ممثلاً هذه الأطوار التي مرّت بها الشخصية ما يلائم كلّ واحدة منها من أداء على مستوى المشاعر والالقاء والوضعيَّة الجسمانيَّة.

وإذا كان كاميران قد نجح في تقديم لير كما تصوره ورسمه شكسبير في نصه الخالد، فإنّه قد أبدع بوصفه مخرجاً حين زاوج بذكاء بين الكلاسيكية التي تسيّدت أجواء وعناصر العرض ممزوجة بالروح الرومانسيَّة.. وبين تنويعات إخراجيّة متناثرة جمعت بين الرمزيّة (على مستوى الشكل واللون) والتعبيريّة على مستوى الأداء، لا سيما في المونولوگات الشكسبيريّة على لسان لير أو باقي الشخصيات. ولا ننسى اللمسة البريشتية التي ختم بها المخرج عرضه باستدعائه لأحد المتفرجين ومحاولة إشراكنا، بل وتوريطنا في هذه المتاهة والمعضلة الإنسانية. وقبل هذا وذاك فقد نجح رؤوف معدّا مؤولاً للنص الشكسبيري، إذ إنه ورغم محافظته على المتن الحكائي بحذافيره، والذي يدين عقوق الأبناء، لكنه على مستويات أخرى تعمّق فكرياً وانطلق إلى تأويلات سياسية ذات طابع فكري تتصدى للسلطة وعوالمها وصراعاتها ولاعبيها المستترين.. السلطة الخفية التي تتحكم بمقدرات العالم على كوكب الأرض وبحكوماتها الكارتونية لتجعلها في حقيقتها أقرب إلى دمى الماريونيت التي يُمسك بخيوطها لاعب يُمسك بميزان التحكم.. سواء كان هذا اللاعب أمريكياً أو أوربياً.. أو حتى ماسونياً.. الملك لير وساحرات مكبث عرض مسرحي كنّا بحاجة إليه للعودة إلى مسرح حقيقي ممتع ومؤثر.