ميادة سفر
وجوه متشابهة وملامح خالية من التعابير، تلك المناظر التي يتابعها المشاهد عبر شاشات التلفزيون، لدرجة أنه لم يعد قادراً على التمييز بين أغلب الشخصيات النسائية التي تظهر على الشاشة إلا ما ندر، بسبب الشبه الكبير بينهن في شكل الجسم وحجم الفم والشفاه والخدود، ومقاسات الخصر والأرداف وشكل وحجم الأنف، إلى غير ذلك من تغييرات يتسابقن على إحداثها في أجسامهن، وصلت في كثير من الأحيان حد التشويه والتشوه، بحثاً عن تحصيل أكبر عدد ممكن من المتابعين الباحثين عن الإثارة، فلم يعد بإمكاننا رؤية شكل طبيعي إلا نادراً.
يبدو أن الهوس بالجسم المثالي الذي فرضته على المرأة النظرة الذكوريَّة أو لنقل الهوس والغريزة الجنسيَّة، ينتشر بشكل مخيف ومقلق لدى فئة واسعة من النساء الراغبات في الظهور بأجمل شكل ممكن، مما حولهن إلى نسخ متطابقة ومتشابهة لا سيما بين الفنانات والمشتغلات في المجال الإعلامي، الأمر الذي ترك أثره على أصواتهن وخطوط التعبير على وجوههن، حتى بتن أشبه بدمى تتحرك أمام الكاميرات، فلم يعد للوجه هويته المميزة، وتحول التجميل من كونه حلاً لمشكلة خلقية أو صحية أو تشوه نتيجة حادث، إلى سباق محموم لتغيير الملامح بعيداً عما يناسب كل جسم أو عضو.
تقول جيرمن غرير في كتابها المرأة المخصيَّة: "تفصّل المرأة نفسها لتروق لسوق مشترين، قد يكون الشاري الأكثر تطلباً هو زوجها، الذي يمضي في ضبط اقترابها من الصورة المقبولة شرطاً لرغبته وفخره المستمرين بها"، لكن يبدو أن الأمر لم يعد مقتصراً على الزوج والرغبة في إرضائه، بل تعداه إلى محاولة الحصول على قبول ورضا سوق العمل الذي يتطلب مواصفات محددة، ومقاسات دقيقة لا بدّ من توفرها لتتمكن المرأة من العمل في مجتمعات أبدعت في تشيؤ النساء وتحويلهن إلى سلع وفئران تجارب في كثير من الأحيان، والمقلق في الأمر أن المرأة تلج هذا المجال طواعيَّة وراضية، وأحياناً مجبرة، لها في الحالتين أسبابها ومبرراتها التي لن تغفر الجرائم التي ترتكب بحق الجسد الذي لطالما كان ملكاً للغير يكشفه ويغطيه ويتلاعب به.
إنَّ ما يجري اليوم من سباق حثيث في عالم التجميل لا ينفصل عن كل ما ناضلت المرأة من أجله عبر سنوات، محاولة تحطيم القالب النمطي الذي وضعها فيه المجتمع والرغبة الذكوريَّة، فهي لا تعدو أن تكون جسداً يتم تعليمها منذ الطفولة أن الجمال هو الأساس والرافعة لحياتها وأنوثتها، مشكلاً قفصاً تحبس نفسها فيه بكامل إرادتها، فالقيود الاجتماعية التي كانت تحاصر المرأة في الماضي أصبحت اليوم تحاصر وجهها وجسدها.
تعكس الأرقام التي يتم تداولها عن أعداد عمليات التجميل التي تجري في البلدان العربية بشكل عام، وتلك التي يجريها الأشخاص على أجسادهم، واقعاً مخيفاً ومقلقاً يزيد من تنميط المرأة ويحشرها في زاوية تعجز فيها عن الاهتمام بأكثر من مقاسات جسدها والتفكير بنظرة الآخرين وتقييمهم لها، والمقلق أكثر أن كثيرات من النساء يجدن صعوبة اليوم في تخطي معايير الجمال التي فرضها المجتمع ووسائل الإعلام، ويجدن أنفسهن راغبات بل ومجبرات على اللحاق بهذا الركب وخوض غمار السباق.