حجر التتويج.. تاريخ متنازع عليه

بانوراما 2023/05/04
...

  ليزي إينفيلد

  ترجمة: مي اسماعيل


كان دير ويستمينستر (الذي بناه الملك أدوارد الأول في العام 1040) موقع التتويج الملكي منذ العام 1066. 

وبينما شاهد زواره أناقة العصر القوطية وقبور ونُصب تذكارية لمشاهير الفنانين والكُتّاب لمختلف العهود (ومنهم- “جيفري تشوسر” و”توماس هاردي” و”روديارد كيبلينج” و”شكسبير” والأخوات برونتي”)، فلعلهم سيُركزون خصيصا في المناسبة القادمة على كرسي التتويج، الذي جلس عليه الملوك ليُتوّجوا منذ العام 1308. تقول “سو كينج” (حاملة الشريط الأزرق، الدليل السياحي للندن والدير): “نرى كرسيا خشبيا بُني قديما، لكن هناك روايات أنه كان مزينا بصور الملوك وأوراق الشجر والطيور، ومذهبا ومرصعا بالأحجار الكريمة. ولعله أقدم قطعة أثاث لا تزال مستخدمة في انكلترا”. ورغم عمره العتيق، فأن ذلك الكرسي ليس إلا جزءاً من قصة التتويج. إذ يوجد أسفله منصة خشبية (جنبا إلى جنب مع أحرف نحتها تلاميذ مشاغبون من مدرسة ويستمينستر). 

كان الملك أدوارد الأول قد صمم تلك المنصة على نحو تضم فيه “حجر التتويج”، وهو صخرة مقدسة ذات أصول غامضة أحضرها الملك من اسكتلندا في العام 1296. ومع إن المنصة الآن فارغة، لكن الحجر سيتم جلبه الى الدير من قلعة أدنبرة (حيث يستقر عادة مع جواهر التاج الاسكتلندية) عندما يجري تتويج تشارلز الثالث ملكا على إنكلترا وأسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية. يعد حجر التتويج (المعروف أيضا باسم حجر القدر) رمزا قديما للسيادة الاسكتلندية، كما إن له ارتباطات تاريخية مع ايرلندا وإسبانيا، ويرتبط حتى بقصص الكتاب المقدس؛ وقد سرقه الانكليز. 

وعلى الرغم من امتلاكه تاريخا طويلا (محاطا بالجدل)، لكنه يبدو في الواقع عبارة عن صخرة غير متميزة إلى حد ما.. فهو لوح مستطيل من الحجر الرملي الوردي بحجم حقيبة سفر صغيرة، يزن نحو 125 كيلوغراما. أما حليته الوحيدة فعبارة عن صليب محفور بصورة خشنة تقريبا، وقد جرى تركيب حلقات حديدية في كلٍ من طرفيه. ولا يعرف أحد متى جرى تركيب تلك الحلقات أو ما إذا كان الهدف منها هو تسهيل عملية نقل الحجر أم لربطه في موقعه؛ وهذا واحد فقط من الأمور الغامضة الكثيرة التي تحيط به.


 اساطير وألغاز

تقول الرواية أن هذا الحجر هو الذي إتخذه النبي “يعقوب” (بحسب رواية العهد القديم للكتاب المقدس) كوسادة تحت رأسه في مدينة “بيثيل” القديمة (شمال شرق رام الله اليوم)، وأن أحد أبنائه قام بنقله الى مصر. 

وتمضي الرواية إلى أن الحجر تم نقله بعدها الى إسبانيا ومنها لاحقا الى ايرلندا؛ وعندما غزا “سيمون بريش” أحد أبناء ملك اسبانيا الجزيرة في العام 700 قبل الميلاد. وهناك وضِع الحجر على تل “ تارا” المقدس قرب “سكرين” في مقاطعة ميث، وأطلق عليه اسم “Lia Fail” أو: “الحجر الناطق”. إذ كان يقال بأن الحجر يئنُ بصوت مرتفع إذا كان المطالب بالعرش من الدم الملكي،  لكنه يظل صامتا إذا كان المُطالب دعيّاً. يقول د. “ديفيد هيوم” (صحفي ومذيع ومؤرخ في مركز أولستر سكوتس الثقافي): “هناك عدد من “الأحجار الناطقة” في التاريخ الايرلندي القديم، وكان هناك حجر في حوزة الملك “فيرغوس مور ماك إيريك” الذي حكم مملكة “دالريادا- Dalriada”، التي إمتدت إلى البحر الأيرلندي وضمت أجزاء من غرب اسكتلندا”. 

يروي هيوم قصة تقول إن فيرغوس أخذ الحجر من إيرلندا الى أسكتلندا حينما نقل بلاطه الملكي الى هناك في العام 498 ميلادي. لكن من غير المؤكد مدى صحة تلك القصة. والدليل الرئيسي فيها هو إعلان أربروث الاسكتلندي في العام 1320، الذي وقعه النبلاء الاسكتلنديون كمناشدة للبابا للاعتراف باستقلال أسكتلندا، ويتحدث فيه عن “شرفٍ” معيّنٍ اجتاز البحر المتوسط قادما من الشرق. 

ومهما تكن الحقيقة؛ فمن المعروف أن الحجر كان قد نُقل الى دير “سكون” في بيرثشاير بعدما وحّد الملك “كينيث الأول” (المعروف بأول ملوك اسكتلندا) مملكتي اسكتلندا وبيكتيش ونقل عاصمته من غرب اسكتلندا الى منطقة دير “سكون” في حدود العام 840 ميلادي، وجرى استخدام حجر التتويج على مدى قرون خلال مراسم تتويج ملوك اسكتلندا. 

ولكن بعد انتصاره في معركة دنبار في العام 1296؛ سار أدوارد الأول ملك انكلترا شمالا واستحوذ على الحجر من دير “سكون”، وثبّته في قاعدة كرسي خشبي للتويج ذي تصميم خاص؛ وعليه جرى تتويج ملوك انكلترا (ثم بريطانيا) داخل دير ويستمينستر بلندن منذ ذلك الحين. لكن حتى هذا التاريخ يبقى الأمر كله محط جدل. 


هيمنة رمزيّةّ 

هناك شائعة تقول بأن رهبان قصر “سكون” أخفوا بالفعل الحجر الحقيقي في نهر “تاي” وخدعوا الجنود الانكليز ليجعلوهم يأخذوا حجرا بديلا. فضلا عن ذلك اثبت الجيولوجيون أن الحجر الذي انتزعه أدوارد الأول استُخرج من محجر بمحيط منطقة “سكون” وليس من فلسطين. من المحتمل أن حجرا أقدم عمرا استخدم في تتويج ملوك إيرلندا، وربما جرى إحضاره أولا إلى أنتريم من منطقة تارا ثم إلى اسكتلندا من قبل الملك فيرغوس؛ ثم جرى استبداله في وقت لاحق بالحجر الحالي المستخرج من منطقة قريبة. 

لكن أحدا لم يعثر قط على الحجر المخفي، ومع إن اسكتلندا لم تكن حينها جزءاً من مملكةٍ متحدة بعد؛ فإن الحجر الذي أخذه الملك أدوارد أعطى ملوك انكلترا المستقبليين سلطة رمزية للهيمنة على اسكتلندا. ولهذا السبب فإن التمثيل المادي للحجر الحالي لكرسي الملكية جعله (على مر السنين) هدفا للنشطاء السياسيين.  

خلال العام 1914 قام عدد من النساء المناديات بحقوق المرأة في الاقتراع بوضع قنبلة تحت الكرسي، وأثناء الحرب العالمية الثانية أدت المخاوف من القصف الألماني إلى دفن الحجر سرا تحت دير ويستمينستر، كما تم نُقل كرسي التتويج إلى كاتدرائية غلوستر حتى وضعت الحرب  أوزارها. وبعد وقت ليس ببعيد من ارجاعها الى موقعها؛ اقتحمت مجموعة من الطلاب الوطنيين الأسكتلنديين الدير عشية عيد الميلاد في العام 1950. حيث قام الطلبة بنقل الحجر (الذي تعرض للكسر أثناء ذلك؛ ربما بسبب ضرر قنبلة سنة 1914 السابقة) وأخفوه إلى أن تم اصلاحه. وبعد أربعة أشهر تم وضعه على المذبح العالي في دير “آربوراث-Arbroath” المُهدم؛ وهو مبنى ارتبط منذ فترة طويلة بالاستقلال الاسكتلندي. كانت تلك حركة استعراضية مذهلة، وعلى الرغم من إعادة الحجر إلى ويستمينستر؛ لم تُوجه أية تهمة للطلبة مطلقا، واستمرت الدعوات لاستقلال اسكتلندا بالتصاعد. وفي العام 1996، حاول رئيس الوزراء البريطاني الاسبق “جون ميجور” اسكات تلك الدعوات بمبادرة اعلامية غريبة؛ معلنا ان الحجر سيُعاد الى اسكتلندا على شرط احضاره ثانية الى دير ويستمينستر لغرض استخدامه في أي تتويج مستقبلي.

كانت الموافقة على النقل بمثابة نصف المعركة فقط؛ غير إن تحريك الحجر يعتبر مهمة شاقة. إذ يجب توفير آلات نقل خاصة وكذلك رافعة توضع فوق الكرسي ليتم نقله الى عربة يدوية؛ من خلال عملية تستغرق نحو ست ساعات. وهي عملية يجب تكرارها قريبا باحضار الحجر الى لندن استعدادا للتتويج المقبل. وقبيل مراسم التتويج سيغلق دير ويستمنيستر أمام الزوار، وكذلك قلعة أدنبره بعد نقل الحجر منها. وتبقى تفاصيل عملية النقل سرا، بسبب تاريخ الحجر وأهميته.. 

بي بي سي البريطانية