(عِتوي) الإسكافي الجوال شنور قدوري

ثقافة شعبية 2023/05/04
...

 جمال العتابي

للمكان جمالياته الخاصة حين يتحول إلى حياة بفعالياته ووظائفه المتنوعة، ومن دون الناس، أو الأشخاص يفتقد المكان معانيه و أبعاده الواقعية والمتخيلة. بعض الشخصيات في سلوكها ونمط حياتها، تعبّر عن حالات استثنائية  تمنح المدن أوصافها وكينونتها المختلفة  عن مدن أخرى، والشخصية بدورها تعد إحدى المقومات الأساسية للسرديات، تتبادل التأثير مع المكان، الذي يسهم هو الآخر في رسم معالم شخصياته. المدن كتاب علامات كلها، فضاء متنوع، تشيخ، وتكبر، تتغير ملامحها، وقد تنطفئ، لكن ذاكرتها تختزن المواقف والأحداث والأفكار والشخصيات، وما يعطي للأمكنة من معنى هو ما تحمله من رموز وحضور في الذاكرة، وأية قصص نسمعها لا نستطيع فهمها أو تصورها إلّا من خلال إطارها المكاني.في حالة مدينة الرفاعي، التي لم تنصفها الحكومات، ولا كتب التاريخ، سادت على ربوع أرضها أولى الحضارات الإنسانية في العالم في مملكتين مهمتين للحضارة السومرية، هما ( لگش)، شرق المدينة، ومملكة (أوما) في 

الغرب منها.


سميت بهذا الاسم تيمناً بالإمام الصوفي أحمد الرفاعي (1118 - 1181)، الموجود مقامه في منتصف الطريق بين الرفاعي والعمارة.

لاتزال المدينة متشبثة بنهر الغراف النازل من مقدم سدة الكوت، خافت النبرات، هزيلاً، يرثي نفسه، باحثاً عن العذابات والينابيع المجهولة، قبل أن يتشتت بعد سد البدعة القريبة من الشطرة، حيث هناك يتلاشى.

وجد أبناء الرفاعي أنفسهم مشغولين بتسلية اسمها( شنور قدوري)، الاسكافي الجوال، لا أحد يعرف متى وفد إلى المدينة، واتخذها مقاماً له، ليعيش فيها كدرويش حقيقي، الغموض يكتنف حياته، 

غير آبه بفضول من يسأل عن تاريخ عائلته وانتمائه. ليس ثمة قصة تروى عنه، سوى افتعاله الجنون إذ دخل عارياً إلى لجنة فحص سلامة المكلف للخدمة العسكرية، فأصدرت قرارها فوراً باعفائه من الخدمة في ثلاثينات القرن المنصرم. 

كان شنور يدرك ان خطاياه تزداد يوماً بعد يوم، وأن عقاباً ما سيناله بسبب هذه الخطايا، يتناسب ومقدار ما يفعله من تلذذ وهوان، كان خياله في الساعات التي تعقب تلذذه يخترع أنواعاً من النكات والمقالب، يروح يبحث في تداعياتها عند الآخرين، كان لديه احساس بالبراءة والنقاء، يمارس غوايته مثل لعبة مكشوفة، يرتكب المقلب، ويعود يبتكر آخر من جديد، منطوياً على مورد محدود، مكتفياً به، يحمل مشاعر متناقضة من المباهاة والخجل والجرأة، وحيداً وضعيفأ بلا مأوى، يختار تخوت المقاهي لينام، أو زوايا السوق بعد هدأته في الليل، أدمن حالته ذلك الطغيان من اللذة في شرب الخمرة يومياً.

وقعت عليه بطاقة اليانصيب كمن يصحو من كابوس على دنيا عامرة وعالم لذيذ يتقاسمه مع الملائكة والشياطين، وتتنازعه اللذة والألم،  في منتصف خمسينات القرن الماضي ربح شنور بطاقة يانصيب مناصفة مع زميل له قدرها سبعة آلاف دينار، أودع صندوق عدّة العمل في أحد الحوانيت، منبهاً صاحبه للحفاظ على الصندوق، كان الرجل في حالة اندهاش لم تستمر طويلاً، إذ عاد ليطمئن  صاحبه بالقول :

   لا تقلق، سأعود اليه قريباً، انا أحب رائحة نِعال القرويين المحمّلة بالطين .


كبرت معه رغبته في التشرّد، فانصرف بقوّة إلى اللعب والعبث، لم يتسلل إلى روحه أي قدر من حب للمال، فهو أبداً لبّى نداءه الداخلي ليروح يقضي أيامه مع الغجر، لقد اكتشف بكثير من اللامبالاة، أنه لايملك وسيلة يتحرر بها من واقعه، الخلاص من رائحة صبغ الاحذية، ونتانة الجلود، الا بالاستسلام لحطام عالمه الجديد، ليزيح عن صدره ثقل الاحساس الظالم بالاخفاق. كانت النساء تتمناه، حين ينثر الدنانير على أجساد الراقصات المتمايلة بين يديه.

    لم تمض الا أشهراً قليلة، عاد شنور لصاحبه يستعيد صندوقه الخشبي، وهو يردد وسط السوق بصوت يسمعه الجميع:

       كلمن يبشّر خالته

       شنور رجع لرگاعته

لم تنقذه البطاقة من الجوع، سوى المزيد من التشريد، حتى أصبحت مثلاً يضرب للخسارات فيقال ( مثل بطاقة 

شنور).

 كان شنور يحفظ في عبّه هراً اسود كثيف الشعر، يثير تساؤل أبناء المدينة عن معنى هذه الرفقة، فيجيبهم : هل حلال على الزعيم الهندي المهاتما غاندي أن يختار العنزة رفيقة له، وحرام على شنور أن يختار ( عتوي) أنيساً له؟ لكنه لا يكتفي بهذه الألفة، انما يطلق (العتوي) متى شاء، في الحفلات والأعراس، او يداهم بائعات اللبن في السوق.  ولا تزال حادثة فرار الطبيب المصري (عنتر)، يتردد صداها في ذاكرة شيوخ المدينة، اذ عمد شنور إلى لف الهر بقماط أبيض، ووضعه أمام الطبيب كطفل مريض، سرعان ما قفز الهر بوجه الطبيب، وفر إلى الشارع مذعوراً. ومنه إلى بلده من دون عودة! 

كان ملء العين محبوباً، شجاعاً، ساخراً، يوظف سرعة بديهيته، في انتقاد الحكومات، في منعطفات حرجة، لا يخشى ردود أفعالها، فتعرّض للاعتقال والسجن، تعلّمَ، وحفظ الشعر من دون مدرسة، كان يردد بيتاً من الشعر لابن الرومي أينما جلس، أو ارتقى طاولة في مقهى صالح مهيدي، فيكتم رواد المقهى قصورهم عن أدراك ما يعنيه فيما يقوله من شعر :


         تَخذتكُمُ دِرعاً منيعاً لتدفعوا

                    نِبالَ العِدا عني فكنتمُ نصالَها

كان يروي قصصاً من حياته، يتدبر ندماً خفياً، يقول: في السنة الأولى من عهد عبد الكريم قاسم، زار متصرف اللواء(المحافظ) مدينة الرفاعي، يوم كان الصراع على أشدّه بين اليسار والتيار القومي، فأغواني (صادق)، أحد الشباب القوميين في المدينة، لأردد هتاف (أرض العرب للعرب)، أمام المتصرف، مقابل ربع قنينة عرق، كنت اصرخ، كادت حنجرتي تتمزق، وأحد المواطنين الكورد إلى جانبي، يهمس في أذني متسائلاً: إلى أي ارض نروح يا شنور؟ أجبته على الفور : راجع صادق!! 

في احدى صباحات أيام الحصار، كان الجوع يفتك بشنور، وجهه مثل منفضة رماد، لم يدخل الدرهم جيبه منذ أيام، تقدم نحو طاولة صاحب المطعم بعد أن شبع وارتوى، وضع أمامه لتراً زجاجياً مملوءاً بالنفط، رفع صاحب المطعم رأسه إلى الأعلى قليلاً باستغراب، وبادر شنور بالسؤال : ماهذا؟ فأجابه من دون تردد :

    أليس النفط مقابل الغذاء!؟ 

  سعادة شنور كما يبدو لمتابع سيرة حياته، تتمثل بقدرته على التخلي عن كل شيء، شنور (ديوجين)* عصره الذي اختار حياة الحرية، وازدرائه للغنى وذمّه لمظاهر الترف، ديوجين مات عن عمر ناهز التسعين، حين قرر أن يتوقف عن التنفس ومنع الهواء من الدخول إلى رئتيه، ربما اقتنع يومها انه لاجدوى من الحياة، مثله كان شنور قدوري قد قارب التسعين من العمر، قرر الذهاب إلى المجهول، لا أحد يعرف أية بلاد تضم رفاته. 


* ديوجين، يوناني عاش في أثينا خلال القرن الثالث قبل الميلاد، أمضى جلّ حياته داخل برميل مسكناً له، كان يوقد مصباحاً في وضح النهار ويمشي باحثاً عن الفاضل الحكيم، خرج على تقاليد عصره، ونكر عادات الناس، خاطب الاسكندر المقدوني بالقول، أنك لاتستطيع أن تحجب الشمس 

بظلك.