طالب عبد العزيز
وأعجبُ مني! كيف حفِظت القصائدَ والمقالاتِ الكثيرة، ولم أحفظ القصيدةَ التي سرقتها من بستان الحاج مصطفى سنة 1974؟ أقصد عائشةَ، البنتَ الصغيرة التي القمتني أوَّل حلمَة في حياتي، بعد حلمَة ثدييّ أمي، وأرتني أوَّلَ شامة داكنة على فخذ بيضاء وبهلب كثير، وتحت قمرية العنب أطلعتني على الليل خارجاً من فستقة النهار.
عائشةُ التي علّمتني أنَّ الهيامَ بالمرأة لا يعني تسوّرَ حديقتِها، واستباقها الى السرير فحسب، إنّما الذهاب الى آخر الغروب بشعرها.
لذا، سمّيت النهرَ منتصفَ الظَّمأ، فأنا في الغضب لا أنا في الوداع، أمّا هي فكانت نقيعُ الموت في دنِّ العناق.
لذا، أقولُ ما قاله أحدُهم: "كثيراً ما تبعثُ الآلهةُ من بيتها الهادئِ بالاحبَّة الى الغرباء" لكن، في السنة تلك طاشت مقاديرُ أبي.
أذا كنتُ قد أودعتُ القصائدَ الطوال التي كتبتُها الاخصاصَ ولفائفَ الفسائل الصغيرة، وأكلت الغِربانُ والعصافيرُ ما تفتَّت من اورقها بالرياح والامطار، وعبث الفلّاحون الذين تناوبوا المرورَ والاقامةَ هناك بما ظلَّ رهينَ السَّعفِ واللّيفِ والقصاميل، فاللحظةَ أستعيدُ عائشةَ (الطوّاشة) التي انتقيتها من بين صويحباتٍ ثلاث لها، لتجمع ما انّتأى وطاشَ من التمر في بستان ابي، أستعيدُها واقفةً، تنوءُ بثقلِ صُرّة التمر على رأسها، وتبقى ممسكةً بها، فتميل مع كلِّ سعفة استعصت على الرِّيح بيننا، ليرتفع ثوبُها القصير، فينحسر عن ساقين مدهونتين بماءٍ عُلويٍّ، لا يروح ولا يجيء، وحين أخذتنا الشمسُ بحديث الوقت والاجور لم تأبه لزرٍّ أفلتته يدُ التعب في قميصها، فوقفتْ تغالبُ عنقاً تميلُ، وروحاً تشفُّ، يوم كان الجسرُ جذوعاً وأغصانَ توت، والمارةُ لا يؤوّلونَ حكايةً عن التمر والعراجين الطريّة، قالتْ بأنَّ أجْرتها عند الحاج مصطفى ربع دينار، وهي لا تأخذ في طريق عودتها إلا القليل من الرُّطب والسعف.. سأعطيك ضعفَ ذلك عن يدٍ: قلتُ، فكانت الظهيرةُ حمراءَ واقفةً، والمؤذِّن يُلحفُ مُحيعِلاً، وسلاحفُ تعبر الترابَ الحارَّ الى النِّهر، فماجَ ماءٌ بيننا، واستخفَّ بوقوفنا نخلٌ وتوت، لكنني، كنتُ مستسلماً، أستجيبُ لنداءِ العينين اللتين تقاطرَ منهما قمحٌ
وشوقٌ كثير.
في الصباح توقِظني عائشةُ من النَّوم، وباسمةً تقذفُ بالوسادة على وجه السرير، وفي الظهيرة تودّعني بقبلةٍ من فم أستُودِعَ رمّاناً ودبساً، وبشفتين ضُمختا بتمر ولبنٍ تأتي على عظمةِ كتفي وجبيني .. فيكون كلُّ ما بين الصباح والظهيرة لنا معا، هي دويبةٌ الارض، وانا طائرٌ في السماء، آتي لها بالتمر من الأعالي، صاعداً في الملكوت الاخضر أو نازلاً منه، أخْرفُهُ من مواطنه حلواً، وأوجِزه دراهمَ ودنانير كثيرة، أفرّق بين السعف وما يليه، وانتقي من العذوق ما ثَقُل واستوى على قصاميله، فيكون جنْياً وينعاً، وهي تطوش الحبّاتِ، تنأى عن أصابعها، فتحُوزها الى الزنابيل، ثم تحملها مسرعةً الى مستودَعه على النِّهر البعيد.
في كلِّ الجداول قبل المدِّ أجدُها نائمةً، ومن تحت كلِّ قَمَرية للعنب أوقظها، فتفرك عينين ناعستين، وينسرحُ عن نهدها قماش كثير، ألوذُ به عنه، إذا شئتُ مسحتُ عليه، فيرتدَّ نائماً، وإن لم أشأ طالتني حَلَمتُه فنمت، وما ربلةُ ساقها بأدنى من يدها لي، ولا شعرها قليل عليّ، تقول بأنَّ الشامةَ على فخذها يقظةٌ منذ البارحة، وأنَّ القاربَ تأرجح في الليل كثيراً، فأشيرُ الى عصفورٍ ذابلٍ بين الشماريخ.
لم ينقض الصيفُ سريعاً في السنة تلك، شمسٌ عملاقةٌ أخذت بناصيةِ النَّخل، فطال، ولم يأت المدُّ الينا بخبر الكواسج من البحر، ولم تحمل المُهيلةُ تمْرَنا الى مكبس الحاج نعيم، ولم يستلني مفوّضُ الامن موسى من طابور الثلج الى دائرته بباب سليمان، كانت الجبهة الوطنية في قراطيس الحكومة ما تزال بعد، وحين مزَّقتُ قميصَه كانت عائشةُ بانتظاري، تسوّي من الصناديق الخشب دمىً وأباطيلَ، ومن الليف والحلفاء وسادة.
طالَ حبلُ انتظاري عندها ونامت، وحين جئتُها من أجَمَةٍ القصب والحِنِّاء كان الحنين بدرهمٍ، والقبلةُ بالف، قالت: تأخرتَ!
لقد استودعني النَّهارُ من بقراتهِ مئةً، وكانت الطريق بلا ذاهبين الى المساءِ: قلتُ.
بحسابِ الدَّراهم والدنانير كنتُ قد أعطيتُ عائشةَ ما ملكتُ، لكنها لم تأخذها، وحين أطلعتُها على كلِّ جدولٍ أمضينا الظهيرةَ فيه لم يزدْها ذلك إلا خفراً وصفرةً، وحين أفلتُّ ذراعَها عن خَصري لم أحص الأفاعي التي سقطت منه، ولما كانت القناطرُ تفرّقنا، ونحن نركضُ، تعثرتُ بطفل في صوتها، صحتُّ بالسفرجل يا أطول شاهق في الريح.. ويا أكثرها صمتاً وعنادلَ، خذها منّي الي، وارجعني منها اليكَ، فوالله ما نحن من بعضنا بشيء، لا انا مدركها فاستريح، ولا هي لاحقة بي فنموت معا، وقد قضت النهاراتُ بيننا، وحال دون ذلك كلُّ حائل، فهي تصنعُ من السعف الطُّوال أفراساً لأحلامها، وأنا أطاعنُ نخلاً لا أجدها في لفائفه، حتى إذا تركتِ الريحُ ثوبَها، وهدأت الشَّامةُ على ساقها، أتيتُ منازلَ وجودِها وغيابها، ودخلتُ عليها من بابِ العناق قبلَ بابِ اللثم والقبل، وملأتُ شعرَها بأصابعي، وادخلتها جناحَ قلبي، حيث تكدسَ تمرٌ كثيرٌ والتأمتْ شماريخ.
يا عائشة، يا أولَ سفرجلة في الريح يُطرمِحُها النسيان، عليك منّي السلام.
أما وقد وسِعتُ زنبيلَ رضاكِ هذراً وهمهمةً، وطار بيننا طائرُ الفجر القديم، حتى لم أعدْ تائقاً لظُلمةٍ، ولا عابئاً بضوء، فقد أحصيتُ الهُلّبَ الاصفرَ على ساقِك فكان مئةَ الفٍ والفٍ ويزيد.