جعفر عبد الامير لبجة

طلع علينا الدكتور حيدر علي خلف العكيلي في مقدمته الرائعة لكتابه الذي سنذكره لاحقاً، فبين ما يطلق عليها بـ (الأهزوجة) والتي اختصت بها مناطق الجنوب والفرات الأوسط من دون المناطق الأخرى ... وبين تركيبها الشعري وربطها بثورة العشرين ثورة الشيوخ والفلاحين وكل طبقات تلك المناطق المذكورة أعلاه.

وذكر الدكتور العيكلي بأنَّ الأهزوجة لم تختص بالرجال فحسب وإنما تعدتها إلى النساء ثم عاد بنا المؤلف إلى الزمن السحيق ما قبل الإسلام وما بعده، إذ كان هناك نوع آخر شبيه بالأهزوجة يؤدي الغاية نفسها ولكن بلغة فصيحة بالضد من الأهزوجة التي تطغى عليها اللهجة الدارجة... والتي تسمى بـ (الأرزوجة) التي ليس لها الشطر الأخير الموجود في الأهزوجة.. وأن الاثنتين الأهزوجة والأرزوجة كانت لهما الغاية نفسها وهي إثارة حمية الرجال وحماسهم عند اندلاع المعارك وخاصة حين اندلعت ثورة العشرين وكانت الأهزوجة بمثابة ذر الهشيم في النار إذ تؤجّج العواطف وخاصة إذا كانت النسوة هن من يرتجلن الاهزوجة بصوتهن الحماسي الرخيم... وذكر الدكتور العكيلي بأن الاهزوجة لم تكن مختصة بالحروب فقط، وانما تعداها إلى الأفراح... وكانت للرقصة والدبكة الرجوليَّة في نهاية الاهزوجة أثرها البالغ في 

النفوس.

بعد هذه المقدمة الوجيزة نعرج الآن إلى كتاب (أهازيج ثورة العشرين) وهي دراسة في الأدب الشعبي للهوسات التي قيلت في ميداين ثورة العشرين، للكاتب المؤلف حيدر علي خلف العيكلي بطبعته الأولى لعام 2020م والصادرة من دار ومكتبة عدنان للطباعة والنشر والتوزيع/ بغداد شارع المتنبي.

تطرق المؤلف في بداية كتابه إلى تعريف معنى الهوسة، (الأهزوجة الشعبيَّة) وبين أن البعض يرى أن الأهزوجة هي احدى أنواع الشعر الشعبي وهي من الهزج أما الهوسة (عكيلية) فهي أيضاً نوع من أنواع الشعر الشعبي مأخوذة من (الهوس) وغالباً ما تكون من شطر واحد يعد رباط لابيات أو أشطر دائماً ما تأتي على أبحر مختلفة، كالهزج (التجليبه)، والوافر (الابوذية) والرمل (الموشّح) أو من الدارمي لذا فان مفردة الهوسة أشمل في معناها من كلمة الاهزوجة التي هي احد الأبحر التي تقع ضمن الهوسة في الغالب ومما يشير الغرابة أن غالبية المتمكنين من هذا النوع من الشعر هم من الأميين الذين لم يتيسر لهم الاطلاع على الاوزان الشعرية والقوافي، وان صنعتهم هذه تخلو من الصنعة المفتعلة تصل بشعرهم هذا الى مستوى تراجيدي غاية في الاتقان والاتزان والخيال الملتهب ولو نظرنا إلى هذه المرأة الأمية كيف تعبر عن معاناتها الشخصية وتستهين بشكوى النساء اللواتي يعانين من آلام 

المخاض.

متعجبه هلنسوان تطلك فرد يوم

        وطلوكي بالساعات كل ساعة اذب توم

إنَّ المجتمع الريفي كما يذكر الدكتور العيكلي يمثل الشريحة الواسعة في المجتمع العراقي آنذاك؛ لذا فلم تكن له الملكة لاستيعاب الشعر الفصيح المبني على دراسة الاوزان والبحور؛ لذا فهو يعد مغلقاً بالنسبة لهم ويخلو من الموسيقى والعاطفة ولا يعبر عن افراحهم واحزانهم فضلا عن أن لغة الشعر الشعبي ومفرداتها مستوحاة من لغة التخاطب اليومية ولن يجد فيها صعوبة بل أن الارتجال بالنسبة لهم هو عفوي لا تصنع فيه، والأهزوجة في مناطق الفرات الأوسط تختلف عنها في الجنوب لكن يبقى المضمون واحد وأن من يطلع على قطعة الأهزوجة يرى أنّها تتصف بالنسق الشعري العالي في صياغتها ومراعاة منظميها الالتزام بالوزن والقافية وأنها لم تكتب من قبل وأنّها وليدة أحداث ووقائع فإذا أراد المهوال مثلاً إلقاء الهوسة يقوم بتنبيه الحشود قائلاً (ها ها ها) للفت انتباه الحشود كي يتم السكون ثم يقوم بإلقاء ثلاث أبيات من الشعر الشعبي ذات الوزن الواحد وبمعنى مختلف ثم يختمها بالرباط (الردّسة) فتتبعه الحشود مرددة الشطر الرابع بتكرار وتدور حوله وهي تهز الأرض بدبكاتها الحماسيَّة إلى أن يصيح مرة ثانية (ها ها ها) فتتوقف عن الردس والكلام، وهكذا بانتظار هوسة أخرى... وتتألف الأهزوجة عادة من ثلاث أشطر من مجزوزات البحور الشعريَّة وأكثرها استخداماً بحر الرجز مثل قول الشاعر جبار العسكري من مدينة سوق الشيوخ لمحافظة ذي قار.

اليهوس من يهوس كون يحجي الحگ

أكل للزين انت الزين والموزين اطكها وياه طگ بطگ

ماريدن حجي الوجهين خوفي من اليكلي كمت تتلوگ

ولقد اجاد المؤلف كل الإجادة في شروحاته العميقة وتعريفه بكل أنواع الشعر الشعبي من هذا النوع كما أنه بين كل ذلك في تدوين كل نوع وأنه لجهد يستحق الثناء ما ذكره المؤلف العكيلي من شاعرات ثورة العشرين فهو بالحق ثروة يعتد بها من الرجال والنساء من كل العشائر ... فهذه الشاعرة الفتلاوية التي اجابت الشيخ عبد الواحد الحاج سكر بعد ان طلب منها إسماعه بعض الشعر بعد عودته ظافراً من احدى المعارك قائلة:

هم أنته واگول عليك مثل الناس

يحلال المخلبص من يضيع الراس

 أما (أضويه) زوجة شاد من بني حجيم الذي كان شيخاً كبيراً ..

قالت تحثه على قتال الأعداء:

يلما تهز عزمك هزاهز

شوف الربع گامت تبارز

انهض لعد خصمك او ناجز

        بل نفتخ بيك أو ننابز

أو هاي الفعايل الك حافز

من تنچتل بالخلد فايز

عيب عليك اتكول عاجز

لا أستطيع بهذه العجالة أن أخمن هذه المقدمة كل ما سطره المؤلف المبدع وهو كثير جداً ... وهو تاريخ تابع لبطولات رجالنا ونسائنا الذين سطروا أروع ملاحم الشرف في ثورة العشرين الخالدة.