تلوّنات السياسي!

الصفحة الاخيرة 2019/04/20
...

 جواد علي كسّار
اعترف أن المرة الأخيرة التي رجعتُ فيها إلى كتاب «سايكولوجية الجماهير» تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما كتبتُ مجموعة من مقالات عن «الشعائر الحسينية» تحوّلت بعد ذلك إلى بحث، تطوّر هو الآخر إلى كتاب طُبع ثلاث مرّات. فقد أردتُ بعودتي إلى الكتاب، أن ادفع عن المجتمع الشعائري أو الجماعة الشعائرية الحسينية، اتهامها بالهيجان والاندفاع غير العقلاني، المصحوب بالعدوانية والتخريب، بحسب فرضيات غوستاف لوبون (1841ـ 1931م)، المنظّر الأكثر بروزاً لظاهرة الجماهير.
أعادتني للكتاب اليوم جملة الحوادث المتراكمة، التي ضربت الجزائر والسودان ولا تزال، وصلة ما يجري في هذين البلدين، مع فرضيات الكتاب وتنظيراته لعلم نفسية الجماهير، من زاويتين على الأقلّ؛ زاوية تلوّنات السياسي والقدرة الفائقة التي يتحلى بها السياسيون، للانقلاب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن الولاء لهذا الرمز إلى الانقلاب عليه بالكامل، كما رأينا ذلك بوضوح فيما شهدته الجزائر والسودان معاً، من مواقف السياسيين والحزبيين ورجال الأعمال وكبار القادة العسكريين والأمنيين، وهم يخلعون جلود الولاء للأنظمة الساقطة، كما يخلعون أحذيتهم، ويتصدرون صفوف الانتفاضات!.
يُقارب غوستاف لوبون تلوّنات الساسة وتقلباتهم حسب طلب الجماهير، بمثال من نابليون بونابرت (1769ـ 1821م) حين ذكر في خطاب بمجلس الدولة الفرنسي، بأنه لم يستطع إنهاء حرب منطقة الفاندي الكاثولوكية جنوب غرب فرنسا إلا بعد أن تظاهر بأنه كاثوليكي حقيقي؛ ثمّ قوله نصاً: «ولم أستطع الاستقرار في مصر، إلا بعد أن تظاهرتُ بأني مسلم تقي. وعندما تظاهرتُ بأني بابوي متطرّف، استطعتُ أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا. ولو أنه أُتيح لي أن أحكم شعباً من اليهود، لأعدتُ من جديد معبد سليمان»! (المصدر، ص 88).
يتحدّث لوبون بعد ذلك عن دور المخيال الشعبي، وقدرة رجال السياسة هؤلاء، على توظيف هذا المخيال، من خلال صور ومواقف ووقائع، كما حصل مع رمزية القائد الصالح في الجزائر، وعسكر السودان وكيف لعب العسكر في البلدين على تطلعات الشعوب، رهاناً من هؤلاء القادة، ومن ورائهم رجال السياسة، على مزاجية الجماهير وتقلباتها.
يعطينا لوبون مثالاً من الجماهير الفرنسية، وكيف تقلبت خلال جيل واحد فقط (بين: 1790ـ 1820م) حيث كانت ملكية ثمّ أصبحت ثورية، ثمّ أصبحت إمبراطورية، ثمّ أصبحت ملكية مرة أخرى. وفي ما يخص الدين، كيف تطوّرت في المدّة نفسها من الكاثولوكية إلى الإلحاد، ثمّ إلى التألهية (الإقرار بوجود الله مع إنكار الوحي والآخرة)، قبل أن تعود إلى أكثر أشكال الكاثولوكية تطرّفاً!.
إزاء ذلك ليس عبثياً أن نسأل: من أين يبدأ الاستقرار الإنساني؛ 
من الدولة والنظام والقادة السياسيين، أم من الإنسان والمجتمع 
ورموز الإصلاح والتغيير الاجتماعي، أم أنّ البداية تكمن في مكانٍ آخر؟!.