مجتمعاتنا المعاصرة قيد الفوضى

منصة 2023/05/09
...

  أ.د. سيّار الجميل 

من خصب التكوين الى انحلال المفاهيم 


نشرت مقالا عام 2008، قلت فيه: كنا قبل خمسين سنة قد تربينا في مدارسنا الأولى، أهليَّة أم حكوميَّة، على قيم مدنيَّة عليا سواء ما يتعلق بالتصرفات، أو ما يتعلق بالعلاقات، أو احترام ساعات العمل، والموقف من الآخر، والاعتزاز بالذات.. علمونا حب الوطن وخدمة الوالدين والإحسان لهما.. كنا نحيي علم البلاد صباح كل خميس، ونحن {كشافة}، وللكشافة أصولها وتقاليدها.. كنا نصدح بالنشيد الوطني، ثم يتم التفتيش علينا للتأكد من سلامة الهيئة ونظافة الوجه والأظافر، كنا نحترم كل معلمينا ومعلماتنا، ونهابهم ونخشى نظراتهم، وأعتقد أن {الاستنارة} لا تبدأ إلا من تلك النقطة الفاصلة التي يبدأ الإنسان فيها وعيه بالأشياء والمعاني ويدرك حدود الأخلاقيات، وإحساسه بالتدرب عليها منذ نعومة أظفاره. 

ليكون إنساناً سوياً بعلاقاته، ومنفحتاً بفكره، وجلياً برأيه ومرتبطاً بأهله، وعاشقاً لترابه، ومنتجاً في يومه ودقيقاً في عمله، والأهم من كل هذا وذاك مستنيراً في حياته.. الخ، ولكنْ؟ ربما لم تكن الحياة مثالية أبداً، ولكن المجتمع، كان يرتبط بالقانون أكبر بكثيرٍ من اليوم، وبالرغم من أنَّ الدولة كانت حديثة النشأة، إلا أنها كانت مهابة في مؤسساتها وشخصيتها العامَّة ومن يمثلها في كل المرافق.. ويبدو لي أنَّ جيل ما بين الحربين العظميين كان قد تربّى على مجموعة قيمٍ وطنية، وتقاليد حضارية، أكبر بكثير مما جرى لما بعد الحرب العالمية الثانية، وأنَّ جيل ما بعد الحرب الثانية الذي عاش الثورة والراديكاليات ومتغيرات التفكير، هو أفضل بكثير من جيل الانغلاق والماضويات والذي عاش في الثلاثين سنة المنصرمة، إذ انغلقت أمامه كلّ الأبواب، وحرم من كلّ فرص التجديد والتفكير المدنيين.." 

(انتهى النص).

أتمنى أنْ تكون العبارات في أعلاه مدخلاً لما أريد معالجته اليوم، ومجتمعاتنا في خضم فوضى عارمة من الانقسامات والتشتت وظواهر صاعقة تعتريها كل يوم بالمزيد من الصعقات التي ستتوالى يوماً بعد آخر في عالم جديد يختلف اختلافاً جذرياً عمَّا كان في الماضي.


مفترق طرق صعب

إشكالية الموضوع تكمنُ في وقوف مجتمعاتنا عند مفترق طرق صعب من تحولات العالم، إذ دخلت فجأة في زمنٍ تستخدم منتجاته التكنولوجيَّة وإبداعاته ومكتشفاته دون مناهجه ومعارفه وتقنياته، ومن دون إدراك لمؤثراتها القادمة، خصوصاً أنَّها لم تزل تحمل تناقضات مفجعة في تفكيرها اليوم، وتتجاذبها الماضوية من طرف وحياة هذا العصر بظواهره الغريبة من طرفٍ آخر، وهي تحرق زمنها بأتفه الأمور ناهيكم عن كونها غير منتجة أبداً، وقد انقرض منها الآلاف المؤلفة من المبدعين الخلاقين، واضطرب التفكير عندها باعتماد أغلب الملايين على الريعيَّة في كل حياتها والخمول والتكاسل وقتل الزمن وهو أثمن قيمة في الوجود.. وقد أضاعت العقود الطوال من السنين، وهي مسجونة في أقفاص أيديولوجيات وتحت بطش سلطات دكتاتورية قمعت كل حرياتها وسحقت كل قواها الحيويَّة، وجعلتها تعيش نستولوجيا الماضي والحنين الى عظمته.


خمسون سنة من الانحرافات أضاعت البوصلة

إنَّ الأمر لا ينحصر بالعراقيين وحدهم حتى يتهمّوا بالتخلّف والتوحش، فلكل مجتمعٍ عربي هناته وسقطاته التي يسكت عنها الجميع، صحيح أنَّ العراقيين يفور دمهم بسرعة وتتغلب عواطفهم على كلّ الأشياء، ولكنْ ما نسمعه ونراه من الأفعال لدى شعوب أخرى، تجعلنا نتوقف قليلاً لمراجعة أنفسنا أولاً، والتأمل بما جرى على امتداد نصف قرن 

مضى. 

وبفعل الصراعات الأيديولوجية وتفاقم السياسات العقيمة والتربويات الرثة، ازداد عامل العزلة المقيتة التي أطبقت على المجتمعات سواء في المدن أم الأرياف، منذ أنْ حّرم الانفتاح، وكّبل المجتمع بالممنوعات والمحّرمات، وحوربت كل الأفكار الرائعة، والإبداعات الخلاقة كونها (بدعاً) وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وجرى إحياء التقاليد البالية التي عاش عليها المجتمع في أزمنة مضت، بل واستفحلت العادات السيئة المتوارثة والمولدة بشكلٍ لا يمكن تخيله أكثر بكثيرٍ مما كانت عليه قبل قرونٍ فائتة من التاريخ، لقد عانت مجتمعاتنا في الماضي من تهتكات الغزاة ومن مزاولة تقاليد سيئة في المدن والريف والبادية، إذ كان قطاع الطرق والمسالك يسلبون وينهبون القوافل.. أو كانت الهجمات ضد المدن لأغراض السرقة والنهب، وكانت تصرفات الأشقياء والفتوات في المدن من البشاعة بمكان.. ولم تزل المرأة تعاني كثيراً في مجتمعاتنا من الاضطهادات والحرمان والسطوة حتى من أهلها الذين يأكلون حقوقها ومواريثها.. وأنَّ ختان البنات في مصر والسودان خصوصاً هي عملية بشعة لا يمكن أنْ يتقبلها الضمير الإنساني، ولم تزل هذه الظاهرة المقيتة حتى يومنا مكرّسة بتأثيرٍ واضحٍ من رجال دين، ولم يزل هناك من يدافع عنها من رجال الأزهر! ولم تزل ممارسات قميئة تجري بحق مواريث البنات وحرمانهم من حقوقهنَّ.. وهضم حقوق اليتامى من القاصرين، ناهيكم عن ضرب الأطفال وتربيتهم بأساليب قمعيَّة وغير إنسانيَّة، ومحو شخصيتهم، وسحق معنوياتهم، وإدخال الرعب في قلوبهم منذ صغرهم لما يسمعونه من حكايات مرعبة.

وإهانة النساء وضربهنَّ، والقسوة على الذات بأقصى درجات الممنوعات وأساليب العزلة، كما ازدادت نسبة الطلاقات في مجتمعاتنا نتيجة تفشي المشكلات الاجتماعية التي لا تعد ولا تحصى، كما تخبرنا دراسات علمية منشورة.. وهناك قتل عمد، أو رجمٌ فاضحٌ للنساء فقط، أو قتلهنَّ دون الرجال باسم غسل العار والشرف.. هناك الثارات وقتل الأبرياء. 

هناك العادات العشائرية التي توظف اليوم من أجل الهيمنة والاستلاب، هناك الهروب المتفشي، والإحباطات المهولة بشكل لا يصدق نتيجة تناقضات المجتمع وقمع السلطات سواء السياسيَّة أو الاجتماعية، هناك التلاعب على القوانين بشتى الأساليب الماكرة، وهناك التهرب من الضرائب، ومن الخدمات العامة، وهناك الممارسات الشاذة القميئة بكل أصنافها.. هناك العلاقات غير النظيفة وهدر المال العام واختلاساته، هناك كراهية قديمة للدولة بسبب سوء ممارسات الأنظمة السياسيَّة لتصبح "الدولة" صورة بشعة، ولما لم تتطور "الدولة" في منطقتنا أبداً بعدم تطور مؤسساتها التشريعيَّة خصوصاً، واستمر الأداء ضعيفاً في كلّ المؤسسات، فلقد ازدادت الرشوة، والوساطات، والمحسوبيات والمنسوبيات، وكثرت السجون والمعتقلات السياسيَّة. 

واعتبر الخروج على القانون شجاعة متناهية بدءاً بالشقاوات والفتوات والقبضايات والمافيات والميليشيات وصولاً الى التهور وانعدام أخلاقيات قيادة السيارات - مثلاً - في أغلب مجتمعاتنا.. هناك إتلاف للصحة بسبب كثرة التدخين وانتشار (الشيشة)، وهناك هدرٌ للزمن في الآلاف المؤلفة من المقاهي المنتشرة في كل مجتمعاتنا.. ومؤخراً انتشرت مقاهي الانترنت ليس لأغراضٍ علميَّة ونظيفة بقدر ما وجدت لأغراضٍ غير سليمة أبداً!، ناهيكم عن حرق شرائح اجتماعية كاملة لزمنها في الإصغاء ومشاهدة مسلسلات تلفزيونيَّة أو أفلامٍ سينمائيَّة تافهة وفيها محتويات خاطئة ومنحرفة ومثيرة ومدلسة تفسد الأفكار 

وتضيّع الزمن.


كّل يدافع عن نقائضه

إنَّ من يقلب مجتمعاتنا على بطانتها، سيكشف هول الممارسات السيئة الخفية، وسيكتشف المرء كم نسبة الشذوذ، وكم نسبة الدعارة، وكم نسبة المدمنين، وكم نسبة المدخنين، وكم نسبة المهووسين، وكم نسبة البؤس الاجتماعي، وكم نسبة المرضى النفسيين والمعتوهين، كم نسبة العاطلين والفاشلين في الحياة، ناهيكم عن كل ما هو علني في البحث عن المتعة السرية واللهو غير البريء وكل ما يسيء للذات أينما كانت في هذا العالم تحت يافطات سياحية أو إعلانات تجارية أو ملهيات مادية، ولنسأل: كم هي نسبة الانحرافات نتيجة الكبت والحرمان وبسبب تقييد الحريات الشخصية في مجتمعاتنا بطريقة مناقضة لكل ما يمارس علناً. 

وكم نسبة المعوقين جراء الحروب؟

إنَّ مشكلات مجتمعاتنا اليوم أنها تثوي بين فوضى النقائض، وأنَّ الناس يدافعون عن تلك التناقضات لأسبابٍ سايكولوجية معقدة جراء تعصب أو غباء أو سوء تربية أو انعدام تفكير، فالمرأة تدافع عن قمعها، والشاب يدافع عن جهله، والاستاذ الجامعي يدافع عن سكونيته وجهالته باسم (المعرفة) المزيفة، ورجل الدين يدافع عن مصالحه واستلاباته الخادعة للناس، والسياسي يدافع عن واقعه التافه ومناوراته ومصالحه الشخصية، والاعلامي يدافع عن أكاذيبه ومفبركاته في هوسٍ للظهور والدعايات، والشابة تدافع عن زواجها العرفي، ورئيس الدولة يدافع عن قراراته ودكتاتوريته وسلطته الحمراء، وكل الناس تدافع عن (مثاليات كاذبة) لا أساس لها من الواقع والتطبيق أبداً، إذ اختفت المثاليات من حياتنا بشكلٍ تامٍ، وكلّ يدافع عن كل المخفي 

والمنظور.


دليل العناية بالإنسان العراقي قبل 75 عاماً

منذ زمنٍ طويل، وقع بيدي أحد الكتب المهمة من ثلاث مجلدات أصدرته وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في بغداد عام 1954، وهو يخص إحصاء النفوس في العراق لعام 1947.. وكم عجبت ودهشت عندما بدأت أقرأ في التفاصيل الرائعة والدقيقة، وكلها رقميَّة وإحصائيَّة كمية تخصّ كل مدينة وقضاء نزولاً الى أصغر قرية في أعماق الجبال أو في الفيافي والصحاري والسهوب ولا يكتفي الإحصاء بأعداد النفوس من ذكورٍ وإناث، ولكنه يحصي المهن والأعمار والأشغال وذوي العاهات والأطفال والأرزاق وعدد الأرامل والمطلقين والمطلقات والعزاب والمتزوجين وكل ما يتعلق بالإنسان في المدن والأرياف معاً، كان المجلد الأول عن بغداد وكل ملحقاتها في وسط العراق، وكان المجلد الثاني عن الموصل وكل ملحقاتها في شمال العراق، وكان المجلد الثالث عن البصرة وكل جنوب العراق والفرات الأوسط، كانت الدولة تعرف كل بيت في أقصى قرية وتدرك الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية تماماً لأربعة ملايين ونصف المليون نسمة من العراقيين عند منتصف القرن العشرين، وعندما طبع هذا "الكتاب: عام 1954 كانت قد بدأت مشروعها العملاق المتمثل بـ"مجلس الإعمار العراقي"، وأعتقد أنَّ ليس هناك أية حكومة عربية وقتذاك اعتنت بإحصاء النفوس فيها كما هي حال العراق وستراتيجية تنمويته وإعماره.

وماذا بعد؟

أسئلة بحاجة الى أجوبة مترجمة الى واقع لقد غدت مجتمعاتنا مشتتة في زمن الفوضى بعد أنْ عاشت قيد الاعتقال، مذ ارتهنت إرادتها بقيمٍ تافهة ليست قيمها الكريمة التي كانت عليها قبل أزمانٍ كي تذيب التقاليد والأعراف البالية، وهي اليوم تعيش في مخاضٍ عميقٍ من المشكلات الصعبة والاضطرابات الفكرية والتناقضات المريرة.

إنَّ قواها اليوم ليست مدنية متمدنة ولا أهلية متوازنة مع وعيها الجمعي، بل ولدت في أغلبها في الثلاثين سنة الأخيرة عن تأثيرات قوى متعصبة، وسلطات استبدادية، وجماعات منغلقة، وحكومات تافهة، وأباطرة مجانين سيطروا على مقاليدها، وقبضوا على أنفاسها، وعلى قواها حتى يومنا هذا، وإذا كنت قد تساءلت قبل 15 عاماً سائلاً: لنا أنْ نتأمّل كيف سيغدو المجتمع اليوم بعد تلك الخلطة العقيمة التي اختلط فيها الحابل من السكان بالنابل منهم تحت مسمّيات شتى، وأنتجت كلّ التفاعلات المتصادمة في المجتمع الذي يعّبر اليوم عن ترسّباته وبقاياه من التقاليد الشقّية بعيداً عن كلّ الأساليب التجديديَّة التي يمارسها العالم اليوم؟ فما الأسئلة التي يمكنني طرحها إزاء المستقبل وبعد مخاضات صعبة لم تزل مجتمعاتنا تعيش خدعة أو كذبة كبيرة متخيلة انها تتقدم وتتطور، ولكنها في الحقيقة تتراجع نحو الوراء مسافات واسعة: هل من تغييرات جذرية في النظم السائدة، وخصوصاً في التعليم والتربية والمؤسسات كلها؟ 

هل من مشروعات لإعادة التفكير في أوضاع المجتمعات وتجديدها؟

هل من استراتيجيات حكوميَّة لتنشيط القوى الفاعلة في مجتمعاتنا؟

هل من خلق فرص لرعاية المبدعين والمكتشفين والأذكياء؟

هل من تشريعات تخص كبار السن والعجزة؟

هل من وسائل ردع لتحريم استخدام المال العام؟

هل من بناء أسس حقيقيَّة لحياة عربيَّة جديدة تزدهر فيها الحريات وتضبط فيها الأعراف ويفرض عليها الأمن من خلال القانون وتراعي فيها الابتكارات؟

هل من عناية بالنخب والنوادي الثقافية وإشاعة روح الانفتاح على الثقافات الأخرى؟

هل من استراتيجيات مستقبليَّة لبناء منظومات عربية متطوّرة تتّسق مع روح العصر؟


مؤرخ عراقي