الفاهيتا وفن النحت

منصة 2023/05/11
...

حسن العاني


لا يحلو اللقاء بغيابهما، أو غياب احدهما، وتبدو جلستنا اليومية في العادة عديمة النكهة والمتعة من دونهما، هما كذلك. 

صديقان منذ 38 سنة أو يزيد، إذا افترقا لضرورات العمل أو الحياة أو لأي سبب من الاسباب، فانهما يسعيان إلى ادامة الصلة والتواصل بهذه الطريقة أو تلك الوسيلة حتى يعود الوضع إلى ما هو عليه.. غير أن هذه العلاقة الحميمة هي أغرب ما رأيته ووقفت عليه.. 

فطوال السنوات العشر المنصرمة على وجه الخصوص، حيث تجمعنا – نحن بعض رجالات المحلة – مقهى الطرف كل يوم بعد صلاة العشاء بصفتنا (جيران واصدقاء)، كان هذان الصديقان هما (بطلا) لقائنا اليومي، ومن تتوجه اليهما (الانظار والاسماع) لمتابعة تلك الخصومة التي تصل أحياناً إلى حد العياط، ذلك لأنهما يختلفان في كل شيء حتى الأشياء الصغيرة، وهو اختلاف لغرض الاختلاف، وخصومة لإمتاع نفسيهما وامتاع 

الاخرين..

تحضرني الآن احدى مناكداتهما الظريفة، فبينما كان الأول يتحدث باعتزاز عن تاريخ العراق (القديم)، قاطعه الثاني معترضاً بأن تاريخ العراق (المعاصر) أفضل الف مرة، غير أن الأول قاطعه بدوره قائلاً [أنت أُمي ولا تعرف شيئاً عن التاريخ] رد عليه الثاني متسائلاً [أنا أمي أيها الجاهل الذي لا يدرك أننا الآن في قمة التطور والتقدم مقارنة...] ولم يسمح له الأول أن يواصل كلامه قائلاً [سأضع أمامك وقائع التاريخ مقارنة بوقائع الحاصر الذي تدافع عنه، ونجعل الحاضرين شهوداً] فوافقنا 

جميعاً!!

وهكذا بدأ الأول حديثه [تعرف يا افندي، يا صديقي المحترم أن تاريخ العراق القديم انجب أولى الحضارات الإنسانية وأعظمها، هل تعرف شيئاً عن الجنائن المعلقة وفنون العمارة، أو انك لا تعرف إلا الكلام الساذج عن تغيير الأسماء في عصرنا الراهن، وتتوهم أنه تطور وحضارة؟] 

سأله احدنا [كيف ذلك؟] [غيّروا مثلاً اسم "تكة دجاج" إلى "شيش طاووق" مثلما ابدلوا اسم "البيض المخفوق" إلى "أومليت" ومفردة "نسكافيه" اصبحت "كابتشينو" وابتدعوا كلمة "ريزو" للرز الاصفر وفوقه دجاج مقلي، أما "المخلمة" فأصبح اسمها "الفاهيتا".. 

اللعنة على حضارتهم المضحكة، حتى "الشوربه الخفيفة" أو تشريب اللحم أسموه "سوب"...] وقاطعته ضحكاتنا، فلما توقفنا أكمل حديثه [الافندي يمكن ما سامع بشريعة حمورابي واختراع العجلة وفن النحت والكتابة المسمارية وصناعة الفخاريات] ثم التفت الينا قائلاً [الآن أريد شهادتكم]، وقبل أن ندلي بشهادتنا الواضحة إلى جانب المدافع عن تاريخ العراق القديم، قال صديقه [يا جماعة.. الخاطر الله.. القضية ما تحتاج شهاده وشهود.. المهم مشروباتكم كلها واصله على حسابي] وغادر المكان على عجل تاركاً وراءه زوبعة من الضحك!!