يقظان التقي
في عودة لعقد التسعينات، وفي مقاربة استعادية تأملية فنية لمرحلة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية ( 1975 - 1990 )، يقيم الفنان التشكيلي هانيبال سروجي معرضاً استعادياً، في غاليري {جانين ربيز}، يمهِّد لمعرضه الخريفي في العاصمة الفرنسية باريس .
يحمل المعرض عنوان « نقطة الانهيار ، أعمالاً من التسعينات « ، ويتواصل حتى 24 أيار / مايو 2023 .
الأعمال المعروضة أنجزت في فترات الهدوء خلال جولات الحرب، كجزء من التجريب الفني، وخروج الشباب اللبناني من ركوده العام، واجتراح حضوره، وتعبيراته على مستوى الموضوعات، وعلى مستوى الألوان .
يضم المعرض مجموعة كبيرة ومتنوعة من أعمال الفنان اللبناني، الذي أنجزها في وحدة زمنية، خلال الفترة الممتدة بين آواخر الثمانينيات إلى بداية تسعينيات القرن الفائت.
وهي فترة قلقة في تاريخ لبنان تستعيد الأعمال المعروضة تلك الحقبة بطريقة تعكس سماتها، بصماتها، خاصةً الهدوء والفراغ، اللذين اعتاد اللبنانيون خلالها على صبّ الرصاص، وأثر الحرائق، التي استخدمها في معارضه اللاحقة في {التنقطية النارية}، ودوي المدافع، الأمر الذي يجعل من لوحات المعرض شهادة يوثِّق سروجي من خلالها، وبطريقته، حدثاً أراد له اللبنانيون أن يستمر طويلًا، ولكن بغير الطريقة التي استمر بها، وأفضت في النهاية إلى ما هو عليه لبنان اليوم.
ثمة روابط خفيَّة غير مباشرة بينها وبين اللحظة الراهنة، واقع يدرك اللبنانيون مدى هشاشته، تكسُّراته، عبثيَّته، وانتهاءً بالأزمة الاقتصادية القائمة في لبنان منذ عام 2019، والتي يرى الكثير من اللبنانيين أنها تتشابه في قساوتها، وإلى حد ما مع الحرب الأهلية، وتتفوَّق عليها في انهيارات شاملة .
فنان حالة يتحكم ذهاباً وإياباً، في تداخل الاتجاهات والنظرات، وينظر إلى الطبيعة التي أنجز فيها الأعمال بنظرات جديدة، كحنيين بين زمنين ، ومجالاً لتعبيرات تبنى على حالات سابقة، تتجسّد عناصر تشكيلية تمثيلية، وتصوير حالات ذهنية في مراجع مختلطة بين رؤى من الداخل والخارج.
في حالات كهذه، تصبح هذه الافتراضات النفسية حافزاً إلى سلوك دروب التجريد، وهو ما أقدم عليه الفنان، وكأن هذا الدرب يتطلّب وجود علاقة مريحة تعبّر عن وحدة الوجود بين الإنسان وظواهر العالم الخارجي. هنايبال سروجي حالة فنية، تمثل هذا الميل إلى التجريد، حصيلة تأمل داخلي كبير توّلده الضربات اللونية في اللوحات بذكريات المساحات المتناسقة الماضية، ومن خلال فترات زمنية ممتدة، بإيقاعات باردة يعيد استكشافها ، بشكل تجريدي آخر، آثار الأزمات غير المؤكدة.
لكن ضمن هيمنة لونية مختلفة، والحقول والطبيعة الملوَّنة المُفعمة بالأمل. نظرة متفائلة تجاه ما سيأتي لاحقاً، ويعيد صياغتها بهدوء داخل المساحة التشكيلية، وذلك انطلاقاّ من مفاهيم جمالية مجازية أكثر ومُوحية ، والتعبير عنها يأتي بأشكال مجرّدة.
هذه الأشكال قد تكون التعبير العفوي عن التوترات الدينامية، التي يسعى إلى ترجمتها وتأويل أشكالها، في مساحات وألوان وخطوط منبسطة تهوييمية أكثر في لغتها التعبيرية .
عادة يطلّ الفنان على مرحلة جديدة، يعود سروجي إلى مرحلة في سوء تفاهم، ليرسم خطاً فنياً مع المستقبل ، أكثر من الماضي .
ليست قضية جماليات فنية، المعرض أكثر من نوستالجيا، تمثيل فني ، وتعامل مع الماضي بطرح تصالحي فني، وبهدف بناء لطبيعة لبنانية لينة، في مكان ما . تداولية لونية، من خلال الحكاية نفسها، صور لا يمكن محوها من الذاكرة، أو نفيها، مثلما لا يمكن تمثيلها بدورها السابق .
الهدف هو العمل الفني نفسه، كما التفكير في تلك المرحلة، يتحول إلى ملحق للطبيعة عبر محاكاتها برومنسية استيطيقائية ، تبعاً لفكرة فنية في غيوم لونية، في ميدان تجريبي لا يتبع منطقاً سياسياً، ما بعد سياسي .
انتاج فني يعتمد تقنيات خاصة في صيغة الضربات اللونية المبالغة في غاية الفن، وأحياناً في كتل لونية متمادية خارج الوعي الفني، في متاهة حريتها ، غامضة لا يمكن تبسيطها حين تتحدى فضاء اللوحة ، عالم الروح .
فنان حساس أكثر من الآخرين، جسد مساراً طويلاً من الشغل الفني 25 عاماً، في معارض فريد وجماعية في لبنان ومعارض عالمية .
لا يحيلك هانيبال إلى أجوبة عن موضوعه الحقيقي، بالتأكيد ليس استحضار الماضي والكشف والتمثيل فقط، بل التعبير والتفكير في ما تم تناسيه، وما تم تخزينه في الذاكرة، وهوناجم عن علاقة يطاردها فنياً، وما زال في صيغة حكاية شاملة سواء بالنقاط المحروقة، الرسم بالرصاص، أو الزمن غاية اللون وأصالته وتهويماته الغاشية، وكعلاقة نقدية \وتشويش استلابي، بين مستوىين ، التجربة العميقة، والمفهوم النظري، والإحالة بالواقع إلى المستقبل.
لا يكفي بالتعبير عن الواقع، بل مضاعفته، بل قلبه في التشكيل والبحث عن التأثير في جيل شبابي جديد، يمنحه شيئاً كطبيعة تجعله يرى، يرسم في اللوحة وبمعيته ، يتحرك ويحيا، يلمس الأشياء الهاربة بشكل استعادي، وفي تجريد متجدد، بحيث أن الألوان هي الجوَّانية، وهي اللغة، وهي العمل الفني الحيّ، فينومينولوجيا الروح اللبنانية التي لا تختفي .
مرة جديدة يدمج سروجي التمرين الفني، يتجاوزه بطاقته وقدرته، ويشهد على مرحلة غاية في الحساسية، وما هو غير طبيعي في الحالة اللبنانة المتناقضة واللامنسجمة اليوم مع الفهم، والخيال ، وتحيل إلى الشيء نفسه .
يُذكر أن هانيبال سروجي فنان تشكيلي لبناني من مواليد عام 1957.
حاصل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من {جامعة كونكورديا} في كندا عام 1987.
وقد شغل مناصب تدريسية مختلفة في عدة جامعات بالولايات المتحدة وكندا، ويشغل حالياً منصب رئيس قسم الفنون والتصميم في الجامعة اللبنانية الأميركية.