سهى الطائي
"السكن عند الأهل ليس بالمجان، ندفع ثمنه نفسياً".
إحدى المقولات التي قرأتها ولم أتفاجأ مطلقاً، لاننا ببساطة في زمن الانفتاح والحرية واطلاق ما نشعره وما شعرناه سابقا من دون خوف، وفي زمن التصريحات الالكترونية الجريئة، التي قد يكون قد أخفاها بعضنا سنين وحين سنحت له الفرصة قالها من دون أن يُكشف عن اسمه اطلقها من دون تردد، وإني أجد أن مثل هذه العبارات قد كثرت جداً، فلا أعرف ما هو الحافز الذي يدعو الكاتب لإطلاقها، وربما لا يمكننا أن نُقدر وضعه النفسي حين قرر أن يشارك الجميع ما شعر أو بما شعر سابقاً، إن مشاركة الألم للناس في جميع مواقع التواصل له سببان من وجهة نظري؛ الأول هو أن يبحث الكاتب عمن يواسيه في مصائبه النفسية أو الجسدية أو المادية وبجميع مفاصل الوجع، والسبب الثاني هو أن يتعرف على من هم إخوان له في الوجع فيتشاطر معهم الآهات، ويتشارك ذرف الدمع معهم.
وحين قرأت الردود على هذه المقولة هنا لاحظت تضارب الاراء والاقوال والتجارب فبعضهم أيد هذا وبشدة وقال دفعتها نفسيا وصحياً وعقلياً، وقد زاد على الكاتب همه وأظهر له أنه في حال أحسن منه، ثم قال آخر هذه حقيقة خجلت أن أقولها يوماً وها أنا اقرأها بكل مصداقية! فهل يعقل أن صاحب هذا الرأي جباناً حتى في التصريح الالكتروني غير المرئي لذاته، وأعتقد أنه ندم حتى على كتابة التأييد للقول، خوفاً ممن سيقرؤها بعده، ورغم عدم تأييدي لهؤلاء إلا أني أكره الجبناء. ومع جحافل المؤيديين؛ يظهر لنا كم لا بأس به من المعارضين، الذين نكروا بشدة وكذبوا حروف الوجع النفسي، مُتهمين الكاتب بالتفكير الساذج، إنَّ أكثر من يتجرأ على اطلاق مثل هذه العبارات ومن هذا النوع بالتحديد هم فئة المراهقين، الذين يجدون أنفسهم ضائعين في زوايا البيت، وقد يكون ملجأهم غرفهم التي ينزون بها ليتخلّصوا من النقد والضغوط والتعليم والصراخ والضرب أحياناً، الذين يظنون أن الأهل أعداء، وأن الأب وحشاً يريد أن يطيعه الجميع من دون حرف اعتراض، وقد يجدون أن أمهم لا حول لها ولا قوة، تردد أقوال الأب كأنّها صدى لصوته.
إنَّ جميع هؤلاء سيدركون متأخرين أنَّ الحياة مع الأهل وخاصة مع الحقيقيين في الحب نعمة؛ سيندمون حين فقدها، وإن من لم يجد الأمان والطمأنية في بيت ذويه لن يجده ابداً، وسيظل يبحث عنه ابد الدهر، حتى يدرك أنه كان مُنعماً فيه وهو غافل مرة وتائهاً أخرى.
من أكثر الردود حيرة، هي تلك التي قالت "دفعناه نفسيا وشعورياً وقلبياً وحين بحثت عن الأمان كان الجميع هناك يرتجف!" فهل يعقل أن يرتجف من له أب؟ يبدو لي أنّه تناسى أن فوقه رب لا ينام ولا يغفل ولا ينسى، وأن كل ما يحدث لنا في هذه الحياة عادل جداً، فكم من مظلومة أنصفها زوج وكم من زوجة عوضت زوجها الحنان الذي يظن أنه مغبون فيه في أسرته، فالحياة غالباً لا تعطي كلّ شيء وإنها سوف تنقصك شيئا ليعوضك الله بشيء أجمل منه ينسيك ذاك الالم يوماً ما، لا بد لنا أن ندرك حتى لو بعد حين.
إنَّ الأسرة هي كل شيء، إذا لم تكن أسرتك بجانبك فأنت صفر، لست موجوداً "فأنت لا أحد إن لم تكن أسرتك وراءك" فهي السند الحقيقي لك وستعلم هذا يوماً ما.
عندما يعيش المرء بمفرده وحيداً لاي سبب كان سيؤمن أن مرارة العيش وإن كانت مع الأهل أفضل من شعور الغربة والوحدة.
لا أحد يختار أهله وقد يبتلي الله بعض الناس بقساوة الأهل أو جفائهم، وهذا النوع المسكين يعترف بكل ألم أن الأهل هم أول صفعة تلقاها من الحياة.
إنَّ الاحتفاظ بالخصوصيات وقت الإفصاح وفي زمن العلانية الإلكتروني نعمة لا يُدركها إلا أولئك الذي دفنوا ما يؤلمهم، وأقاموا عليه العزاء بسريّة تامة من دون مشاركة الناس، الذين جعلوا من حفلة التأبين درساً لهم في حياتهم؛ استفادوا منه رغماً عن وجعهم، ورغم وجود الألم فالأمل لا يزال يظهر من وراء بابهم الموارب للوجع!.