مسرح الدُّمى ودوره في تنمية القاموس اللغوي للأطفال

منصة 2023/05/18
...

  م. حيدر علي الاسدي

يعد الطفل اللبنة الأساس لبناء الأسرة، ومن ثم الاسهام في بناء المجتمع، كما تتسم مرحلة الطفولة بوصفها من اهم المراحل، التي تنمو وتتطور عن طريق ما يتلقاه الطفل من مهارات مكتسبة ومبتكرة، وبذلك تسعى كل المجتمعات للاهتمام بتنمية الطفل وتنشئته بصورة صحيحة، حفاظاً على تماسك المجتمع.

وذلك من خلال بناء الطفل بناء تربوياً ونفسياً، بالاستعانة بكل وسائل البناء والتنمية القادرة على رسم المسار السليم للطفل، وعلى وفق ما تفرزه المفاهيم المعاصرة من طرق البناء، ولعل من اهم الادوات الفنية، التي تسهم ببناء الانسان وتغييره هو المسرح، الذي يعد اداة تعبيرية مهمة منذ لحظة اكتشاف الطقوس الأولى لهذا الفن، وصولاً الى وقتنا المعاصر، فهو يقدم فضلاً عن الجانب الجمالي جانبه المعرفي المتصل بقيم التربية والفكر والبناء والنماء، وهو ما سعى له كتاب المسرح بشتى الاتجاهات منذ القدم، ولعلَّ واحدا من أنواع المسرح هو مسرح الدمى المتصل كقيمة معرفية بالأطفال، والذي مثل من اكتشافه لحظة تنوير ووعي وأيقونة مهمة لمخاطبة شريحة الاطفال وصقل مواهبهم وقدراتهم في شتى المجالات، وتبعاً لما يطرح من مضامين في هذا المسرح وبخاصة اذا ما وظف في المجالات العلمية والتربوية والاخلاقية، بطريقة تسهم في بناء الاطفال وتنمي من مهاراتهم، بالاستناد إلى قيمة المسرح ووظيفته الفكرية والتربوية الساعية لمخاطبة الافراد (ونقل) رسائل المسرح لهم، للإسهام ببنائهم على المستويات السيكولوجية والسيسولوجية وحتى الذاتية، وهو ما يوفره على وجه الدقة النص في مسرح الدمى المقدم للأطفال، فهو خطاباً مهماً يسعى للتواصل مع الاطفال بطريقة تبني قدرات خاصة لديهم، وتقدم لهم المعلومة والمعرفة والقيمة التربوية ضمن متن درامي مسلي وممتع ومشوق في الوقت ذاته، فيعد مسرح الدمى أحد أهم الأدوات التعليمية، لما يمتلك من محط جذب للأطفال بفعل وسائلته التشويقية، التي تتلاحم ما بين اللعب والابهار واللغة التعبيرية المحببة للأطفال، وسنقدم نموذجا تحليليا في هذا المقال الا وهو مسرحية (فارس المشاكس والورقة العجيبة) للمؤلف الدكتورة زينب عبد الأمير. 

إذ اختارت المؤلفة العراقية د.زينب عبد الأمير، شخصياتها من النوع المؤنس، فضلاً عن شخصيتي (فارس: دمية قفازية تجسد دور صبي مشاكس مغرور يحب المبارزة) و (الفلاح: دمية قفازية تجسد دور رجل طيب ذي حكمة)، أما بقية الشخصيات فكلها مؤنسنة سواء كانت كائنات أو ظواهر طبيعية (ورقة)، (قطورة)، (سي او تو )، (شموسة)، (مادة الكلورفيل الخضراء: كف كف). 

ويبدو من شخصياتها أنها مسرحية تعليمية هدفها تقديم مادة علمية للأطفال، بعد أن حاولت المؤلفة أن تمسرح منهج مادة العلوم لصف الرابع الابتدائي في العراق، وتحوله لنص مسرحي للدمى، يظهر فارس في المشهد الاول وكله حماس وطاقة وبسالة في ابراز قوته، ويبدو من خلال استعراض عضلاته نبرته العالية المحفوفة بألفاظ الشجاعة والتباهي والفخر (أنا فارس ابو الفوارس.. أنا قوي أنا بطل.. لا يقف بوجهي أي شيء.. أنا فارس المغوار.. أنا المدمر.. طاخ طاخ)، وهنا تتصدر مفردات البطولة التي تسعى لإبرازها، من خلال شخصية المتفاخر المشاكس (فارس)، وهي تتواءم مع سلوكه، وهو ما سعت لبيانه في بنية هذا النص، فالألفاظ هنا معبرة عن الحالة السلوكية، للطفل المشاكس فارس، فبرزت بذلك ألفاظ (المشاكس، المغوار، المدمر، طاخ)، وكلها مفردات تقترب كثيراً من الناحية التدميرية، المتسمة بالشجاعة المنفلتة أو المفرطة، وهي غير مرغوبة بنسق سياق النص المسرحي (والرسالة التي تقدمها 

المؤلفة). 

وعبر مفردات (الغضب، الانزعاج) يبدو الفلاح مستاءً من الطفل المشاكس فارس، مع التركيز على مفردتي الغضب والانزعاج ونفي صفة البطولة عن فارس، إنما تأتى بسبب ما يفعله فارس مع الزهور والنباتات. ولأن المؤلفة هنا جعلت من الفلاح الشخصية الحكيمة (التي توازن النص المسرحي)، وتمثل مفردة الخير والتقويم والصلاح في بنية وفكرة النص، فإن أغلب ما يرد على لسان الفلاح إنما هو توجيهات ونصائح سديدة يوجها ليس لفارس وحسب، بل حتى للمتلقي (الطفل) ويعزز بذلك وعبر ما يطرحه من مفردات، القيم التربوية والعلمية للطفل. (الفلاح: هذه ليست فروسية، وليست شجاعة، الشجاعة يا فارس ليست بتقطيع اوراق النباتات وأغصانها، وإلحاق الأذى بالبيئة، ما ذنب هذه الزهور والنباتات الخضراء انظر كم هي جميلة كما أنها مفيدة)، وتختار المؤلفة ألفاظا تتنافى مع ما يدعي له الطفل فارس (ليست فروسية) (ليس شجاعة)، إضافة إلى مفردات أخرى تتسم بالسلوك السلبي ازاء الطبيعة (الحاق الأذى بالبيئة) وهي مفردات غير متداولة في حياة الطفل، وانما جاء سياقها هنا تعزيزاً لمعرفته بأهمية البيئة وضرورة الابتعاد عن سلوكيات قطع الاشجار والنباتات، مما يعزز المعلومة والمفردة الملائمة لهذه المعلومة في ذهنية الطفل المتلقي، وهنا يرتبط كل فعل سلوكي خاص بإلحاق الضرر بالآخر (بإلحاق الاذى)، وهي مفردة غير متداولة كما اشرت في قاموس الطفل. 

ويستمر فارس في طريقته الاستنكارية على الفلاح، بعد أن يسمع أن النباتات هي من تصنع غذاءها بنفسها. 

(فارس "باستهزاء" ما هذا الهراء يا عمي الفلاح)، وهنا يتوضح أن لفظتي الاستهزاء والهراء إنما يصدران من رغبة استنكارية، لفعل غير مقبول، أو غير منطقي او تصرف سلبي شائن، وهذا ما يتركز في ذهنية الطفل المتلقي لهذا النص المسرحي، وبخاصة أن الألفاظ تصدر من شخصيات محببة للطفل ويتابعها بشغف، حتى وان كانت بعض سلوكيتها تتسم بالمشاكسة والشغب، كما هو حاصل في شخصية (فارس)، وبالتالي استقبال هذه المفردات ستشكل ذاكرة انفعالية وخزينًا لغويًا للطفل، يستخدمه حينما يواجه مواقف مشابهة. 

وتستمر نسقية تقديم الالفاظ من المؤلفة على لسان شخصيتها الرئيسة (فارس)، وهذه المرة بتداول مفردات الأعياء والتعب والاصابة الخمول والتوعك (أشعر بتعب شديد)، (ارهقني تقطيع الأوراق)، (سأخلد إلى النوم لارتاح) وكلها تعبر عن حالات شعورية وتصرفات تتعلق بالطفل في حالتي التعب والبحث عن الراحة، وكأن المؤلفة تومئ كثيراً لتوظيف الالفاظ حسب الحالات الخاصة بالطفل وتداول تلك الألفاظ، والتركيز عليها يعطي رؤية واضحةً للطفل للتعلق باستخدامها، لا سيما أنه يتأثر كثيرا كما أشرنا بشخصيات الدمى والرسوم المتحركة، والتي تقدم عبر مسرح الدمى وغيرها. 

كما يتضح السياق اللغوي في حالات المفاجئة والدهشة، فالكاتبة أفردت لكل حالة يصاب بها الطفل، هناك حالات تعبيرية لفظية معينة توظفها في بناء وتأثيث نصها المسرحي. 

كما في  (يستيقظ من نومه مذهولاً)، فالذهول هنا جاء لوجود فعل غير طبيعي صادم يتعرض له الطفل (فارس). وكذلك نجد أن اغلب التوصيفات اللفظية للحالات التي تمر بفارس تأتي عبر الارشادات، التي زينها النص المسرحي، وهي ارشادات مهمة، لا سيما في مسرح الدمى، لأنها ترسم مسارا سلوكيا جماليا تربويا، لإنتاج وتقديم العمل كما في (فارس "غير مبالٍ)، كما تعزز المؤلفة الرصيد اللغوي المعلوماتي، من خلال ما يرد من معلومات عن صناعة الغذاء من قبل النباتات، واسهام الورقة الخضراء بصنع الغذاء، ويتوظف ذلك من خلال الأغاني التي يتمحور فيها الشعر، حول الماء وغاز ثاني اوكسيد الكاربون والشمس، والتي كما اشرت تشكل ايقاعاً موسيقياً يجذب له الاطفال ويتفاعل معه، ويشكل جرس مهم في عملية تلقي الاطفال لتلك الالفاظ الواردة في الاناشيد والقصائد. 

وتستمر المؤلفة في تقديم المفردات اللغوية، التي ترتقي من الرصيد القاموسي للطفل على وفق استعمالات تلك الالفاظ على ما تنطبق عليه من حالات مشابهة للطفل، في حياته العامة أو الخاصة، (فارس يتذمر)، (الغرور هو صفة ليست بذيئة، ولكن عندما تزيد عن حدها تصبح كذلك)، وهنا المؤلفة وفي معرض بيان الحالات الشعورية لفارس، إنما تبيّن للأطفال استعمالات تلك المفردات على وفق ما يواجهون من مواقف، ويحصل هذا بطريقة لا مباشرة، كون المؤلفة تقدم نصها بصورة نظام متكامل من الجمل والحوارات، التي تتلاحم وتعبر عن الفكرة، التي تسعى لإيصالها، ولكن بتحليل علمي موضوعي، يتوضح الاستخدام الدقيق للمؤلفة لكل مفردة في سياقات نصها المسرحي الخاص بالدمى. 

كما أن المؤلفة تضع بين يدي الاطفال بعض الاختصارات اللغوية العلمية، كما في حوارات السي او تو ((نعم وما العجيب في ذلك!!ان سي او تو هو الرمز الكيميائي لاسمي الحقيقي، فبدلا من ان ينادوني بثاني اوكسيد الكاربون وهو اسم طويل!! ينادونني فقط ب (سي او تو). 

وترد بعض المفردات اللغوية بطريقة شرح لموضوع علمي، يتصل بثيمة النص المسرحي المقدم، كما في حوارات سي او تو، (ادخل إلى الورقة من خلال الثغور الموجودة على سطحها). 

والثغر أو المسام  وجمعها ثغور هي فتحة دقيقة جداً على السطح الخارجي لورقة النبات، تسمح بتبادل الغازات (ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء)، واضافتها لقاموس الطفل اثراءً لغويا مهما يسهم بمعرفته بالمفردة واستعمالاتها العلمية أو حتى في أمكنة اخرى. وكذلك يتمثل ذلك في عملية شرح مصطلح (البناء الضوئي) على لسان شخصية ورقة. 

والمؤلفة في معرض تقديمها لجمل وحوارات نصها المسرحي، إنما كانت تصف الأشياء عبر بيان نقيضها، وتوائم بذلك كل مفردة بطرفي المعادلة (الاصل والنقيض)، كما في مفردات انطباق الخير بالفعل، ومفردات وصف الشر، أو مفردات (الاخضرار واليناعة) ومفردات (الشحوب والاصفرار) (الذبول، الانتعاش) وتبين في السياق ذاته مسببات كل من طرفي المعادلة ليصح ما نطلق عليه اصل الشيء أو نقيضه، وبصورة سلسة درامية متأطرة ضمن أحداث العمل المسرحي. 

المؤلفة قدمت هذا النص بلغة السهل الممتنع، وبلغة بسيطة توائم وطبيعة المرحلة العمرية المقدمة لها النص المسرحي، ناهيك عن عدم اغفالها لرفع ذائقة الطفل بالمصطلحات والمفردات التي تسهم فعلياً بثراء قاموس الطفل وخزينه اللغوي، مما تسهم ليس بتغذية معلوماته وحسب، وانما حتى لغته ومفرداته، وهو ما يحقق الثراء اللغوي والتربوي للطفل.