زيلنسكي يدبّر في السرِّ غير ما يجهر به في العلن

قضايا عربية ودولية 2023/05/18
...

 جون هادسن وإيزابيل خرشوديان

 ترجمة: أنيس الصفار 

كسب الرئيس الأوكراني {فلودومير زيلنسكي} ثقة الحكومات الغربيَّة عندما رفض استخدام الأسلحة التي زوَّدته بها في شن هجمات داخل روسيا واضعاً استهداف القوات الروسية داخل حدود أوكرانيا بموضع الأولوية.

لكن خلف الأبواب المغلقة كان الرئيس الأوكراني يطرح فكرة المضي في اتجاه أكثر جرأة وجسارة يتضمن احتلال قرى روسية لكسب قوة ضغط على موسكو، وقصف خط أنابيب ينقل النفط الروسي إلى هنغاريا، وهي عضو في حلف الناتو، والتطلع سراً للحصول على صواريخ بعيدة المدى كي يضرب أهدافاً داخل حدود روسيا. هذا هو ما كشفته وثائق سرية للمخابرات الأميركية توضح تفاصيل اتصالاته الداخلية بكبار مساعديه وقادته العسكريين.

الوثائق المذكورة، التي لم يسبق الكشف عنها، هي جزء من تسريبات أوسع للأسرار الأميركية التي جرى تداولها عبر منصة “دسكورد” للمراسلة وحصلت عليها صحيفة “واشنطن بوست”. تكشف الوثائق صورة زعيم يضمر نزعات عدوانية تتناقض بشدة مع صورته التي يواجه بها الجماهير، صورة رجل الدولة الهادئ الرصين الذي أضناه الهجوم الروسي الشرس. هذه الإطلالة الداخلية أمكن تجميعها من خلال اعتراض الاتصالات الرقمية، وهي تعكس نظرة نادرة لمخططات زيلنسكي وسط الوابل المنهمر من الصواريخ الروسية والهجمات التي تقع على البنى التحتية وجرائم الحرب.

لكن في البنتاغون، حيث اطلع كبار القادة العسكريين الأميركيين على إيجاز بهذا الشأن وأحيطوا علماً بما تضمنته الوثائق المسربة، لم تطرح صحة تلك المواد للمناقشة.

في بعض الأحيان بدا زيلنسكي وكأنه يحاول لجم طموحات مرؤوسيه، ولكنه في أحيان كثيرة أخرى كان الطرف الذي يقترح المضي بعمليات عسكرية محفوفة بالخطر.

في اجتماع عقد في أواخر شهر كانون الثاني طرح زيلنسكي مقترحاً بأن تنفذ أوكرانيا ضربات على روسيا وفي الوقت نفسه تحرك قطعات برية أوكرانية إلى داخل أراضي العدو “لاحتلال مدن روسية حدودية لم تحدد بالاسم” وفقاً لإحدى الوثائق الموسومة “سري للغاية”. كان الهدف من ذلك هو “إعطاء كييف قوة ضغط في المحادثات مع موسكو”، على حد نص الوثيقة.

في اجتماع منفصل آخر بنهاية شهر شباط مع القائد العسكري الأوكراني الأعلى، الجنرال “فاليري زالوشني”، عبر زيلنسكي عن قلقه بسبب عدم امتلاك أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى تستطيع الوصول إلى القوات الروسية المنتشرة داخل روسيا، أو أي سلاح آخر يمكن استخدامه لمهاجمتها. اقترح زيلنسكي آنذاك أن تهاجم أوكرانيا مواقع انتشار غير محددة في روستوف، وهي منطقة تقع في غرب روسيا، باستخدام الطائرات المسيرة بدلاً من ذلك، وفقاً لوثيقة سرية ثانية.

في لقاء عقد في منتصف شهر شباط مع نائبة رئيس الوزراء “يوليا سفريدينكو” اقترح زيلنسكي أن تقوم أوكرانيا “بتفجير” خط أنابيب “دروشبا” الذي يزود هنغاريا بالنفط. وتفيد الوثيقة بأنَّ زيلنسكي كان يؤكد ضرورة قيام أوكرانيا بتفجير خط الأنابيب وتدمير صناعة رئيس الوزراء الهنغاري المحتمل “فكتور أوربان” المعتمدة أساساً وبشدة على النفط الروسي، كما ورد في الوثيقة.

خلال عرض تفاصيل المحادثة هوّن مسؤولو المخابرات من الأمر بقولهم إنَّ زيلنسكي إنما “كان يعبر عن سخطه على هنغاريا، وبالتالي ربما كان يطلق تهديدات مبالغاً بها ولكنها لا تعني شيئاً.” بيد أنَّ هذا الوصف لا ينسجم مع أقوال أخرى لزيلنسكي يقترح فيها القيام بعمل عسكري جريء. فرغم أنَّ هنغاريا تعتبر من الناحية الاسمية جزءاً من التحالف الغربي يعتبر أوربان على نطاق واسع أوثق الزعماء الأوروبيين قرباً من الكرملين.

حين سئل زيلنسكي خلال مقابلة مع صحيفة “واشنطن بوست” في كييف إن كان قد اقترح احتلال أجزاء من روسيا نفى المعلومة الاستخبارية الأميركية ووصفها بأنها “نسج خيال” ولكنه دافع في الوقت نفسه عن حقه في اللجوء إلى تكتيكات غير تقليدية للدفاع عن بلده.

قال زيلنسكي: “لأوكرانيا كل الحق في حماية نفسها، وذلك هو ما نفعله. أوكرانيا لم تحتل أرض أحد بل العكس هو ما حدث. وعندما يموت كل هذا العدد العديد من الناس، وعندما تكون هناك مقابر جماعية ويتعرض أبناء شعبنا للتعذيب فإنني واثق أنَّ بوسعنا اللجوء إلى الحيلة والخداع.”

استخدام صواريخ بعيدة المدى لضرب أهداف داخل روسيا موضوع ذو حساسية خاصة بالنسبة للبيت الأبيض الذي كان يشعر بالقلق منذ وقت طويل من أن يتفاقم الصراع في أوكرانيا حد الخروج عن السيطرة فيفرض موقف مواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا اللتين تعدان أكبر قوتين نوويتين في العالم.

فرغم منح واشنطن زيلنسكي أسلحة متقدمة تعادل قيمتها مليارات الدولارات بقي الرئيس بايدن يرفض بثبات طلبات الزعيم الأوكراني تزويده بنظام الصواريخ بعيدة المدى المسمى “أتاكمز” (وهو اختصار لعبارة نظام الصواريخ العسكرية التكتيكية). هذه الصواريخ تستطيع ضرب أهداف على مسافات تصل إلى 300 كيلومتر تقريباً. منذ بداية الحرب أعلن بايدن أنَّ الولايات المتحدة لن تشجع أو تمكن أوكرانيا من الضرب خارج حدودها.

حين سئل زيلنسكي عن المعلومة الاستخبارية التي ذكرت أنه كان يقلب الفكر في استخدام صواريخ بعيدة المدى لضرب روسيا رد بأنَّ ذلك ليس مما يدور في مخيلة أوكرانيا. قال: “لم يصدر احد في بلدنا أوامر بشن هجمات أو ضربات على الأراضي الروسية.”

من غير الواضح إن كانت الولايات المتحدة قد أطلعت الدول الحليفة على المحادثات المتعلقة بما يخططه زيلنسكي، إلا أنَّ الرئيس الأوكراني لا يزال يحظى بدعم قوي من جانب الحكومات الغربية، التي أمدته بتشكيلة متنوعة من الأسلحة التي لا تفتأ تزداد تطوراً وقوة.

في الأسبوع الماضي أصبحت بريطانيا أول دولة غربية تزود أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى. صواريخ “ستورم شادو”، وهي صواريخ كروز مزودة بقدرات التخفي عن الرادار، يصل مداها إلى نحو 250 كيلومتراً، وهذا يتجاوز بكثير مدى 80 كيلومتراً لمدفعية “هيمارس” التي ترسلها الولايات المتحدة.

في يوم الجمعة الماضي قال وزير الدفاع البريطاني “بن والاس” إنَّ الصواريخ سوف تتيح لأوكرانيا فرصة أفضل للدفاع عن نفسها وانها ستكون للاستخدام داخل الأراضي السيادية الأوكرانية فقط. وقد اعرض المتحدث باسم السفارة البريطانية في واشنطن عن التعليق على ما إن كانت تعليقات زيلنسكي المسربة ستجعل لندن تتريث في قرارها.

أما إدارة بايدن فتقول إنَّ تعليقات زيلنسكي المسرّبة ليست السبب الذي دعاها إلى حجب نظام الصواريخ التكتيكية “أتاكمز” عن أوكرانيا.

قال مسؤول دفاع أميركي، بعد اشتراطه مثل بقية من أجريت معهم المقابلات في هذا التقرير على مناقشة المواضيع الحساسة دون التطرق إلى أسمائهم: “لقد التزمت أوكرانيا بشكل مستمر بنشر الأسلحة التي زودتها بها الولايات المتحدة على نحو ستراتيجي مسؤول كلما دعت الحاجة إلى مواجهة العدوان الروسي، ونحن على ثقة من أنَّ الحال سوف يستمر على ذلك.”

منذ العام الماضي وعد زيلنسكي بأنَّ أوكرانيا لن تستخدم الأسلحة الأميركية أبداً للضرب داخل روسيا، وهو وعد يقول البيت الأبيض إنه لم يخل به.

يقول مسؤول كبير في الإدارة الأميركية: “لقد التزم الرئيس زيلنسكي بتعهداته التي قطعها للرئيس بايدن، ولا نعتقد أنَّ هذا الموقف سيتغير.”

أحد الأسباب لعدم تزويد أوكرانيا بالصواريخ بعيدة المدى هو ما يشاع عن قلة ما تمتلكه الولايات المتحدة نسبياً من أنظمة “أتاكمز” واحتفاظها بها لاحتياجاتها الدفاعية الخاصة، كما صرح الجنرال “مارك ميللي” رئيس هيئة الاركان المشتركة لمجلة “دفينس وان” في شهر آذار الماضي.

لكن زيلنسكي يقول إنَّ الولايات المتحدة إنما تمتنع عن إرسال الأسلحة في اعتقاده لعدم ثقتها بكييف.

قال زيلنسكي في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست: “اعتقد أنهم يخشون أن نستخدمها على الأراضي الروسية. ولكني أود دائماً أن أبلغ شركاءنا بأنَّ لدينا أهدافاً ذات أولوية، ونحن ننفق فيها شحنات الذخائر التي نتلقاها، كما ننفقها من أجل رفع الاحتلال عن أراض أوكرانية خالصة.”

بالرغم من عدم توفر مؤشرات على أنَّ اوكرانيا قد استخدمت صواريخ غربية لضرب الأراضي الروسية لا يمكن قول الشيء نفسه عن استخدام كييف للطائرات المسيرة المسلحة.

فالتفجيرات التي تسببها المركبات الطائرة بدون طيار قد أمست حدثاً معتاداً في روسيا، بما في ذلك روستوف، حيث تحطمت طائرة مسيرة داخل مصفاة لتكرير النفط في هذا الشهر. في أغلب الأحيان يتحدث المسؤولون الأوكرانيون عن تلك الحادثة على استحياء، فيلمحون إلى مسؤوليتهم عنها دون المفاخرة بها بشكل مباشر.

اظهر هجومان بالطائرات المسيرة وقعا في شهر كانون الأول الماضي على قاعدة “إينجلز” الجوية في ساراتوف، على عمق يقارب 600 كيلومتراً عن الحدود الأوكرانية، “أنَّ لدى أوكرانيا القدرة على الوصول إلى كيلومترات عديدة أبعد مما يتوقعون” على حد تعبير “أولكسي دانيلوف” أمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني في تصريح له في وقت سابق 

من العام.

خلال الشهر الحالي اتهمت روسيا أوكرانيا بشن هجوم بالطائرات المسيرة كان الهدف منه قتل الرئيس “فلاديمير بوتين” في الكرملين. حيث أظهرت مقاطع فيديو تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي وتثبتت صحيفة واشنطن بوست من صحتها طائرتين مسيرتين تشقان طريقهما في السماء صوب الكرملين في الساعة 2:30 صباحاً تقريباً بالتوقيت المحلي. بيد أنَّ الاتهام تم نفيه بشدة من جانب المسؤولين الأوكرانيين ومنهم زيلنسكي.

لا تظهر كل الوثائق السرية زيلنسكي بمظهر من يحث على القيام بإجراءات أشد عدوانية، حيث تصف إحدى الوثائق خطة كانت تعدها وكالة المخابرات العسكرية الأوكرانية في العام الماضي لتنفيذ هجمات سرية مموهة على القوات الروسية في سوريا من خلال الاستعانة بمساعدة كردية سرية. الخطة المفصلة المذكورة كانت ستفتح ساحة معركة جديدة على بعد آلاف الكيلومترات عن أوكرانيا، لكن زيلنسكي وجه مساعديه في شهر كانون الأول بوقف التخطيط لعمليات ضد القوات الروسية في سوريا، كما جاء في الوثيقة، دون بيان السبب الذي دعا لإيقاف العمل بالخطة.

في مقابلة معه مؤخراً قال زيلنسكي إنه يحتفظ بحق استطلاع المدى المتاح أمامه من الخيارات العسكرية. 

قال زيلنسكي: “عندي جنرالات عديدون أعمل معهم، وهذه هي محادثاتي الشخصية.” ثم أضاف: “الحرب تتمحور حول احتلال أوكرانيا، ويجب أن تخرج أوكرانيا منتصرة.”


عن صحيفة “واشنطن بوست”