الهند.. اختلال ديموغرافي وأكبر هجرة في تأريخ البشريَّة

بانوراما 2023/05/21
...

 باربرا بليت أوشر

 ترجمة: ليندا أدور

في الوقت الذي أعلنت الأمم المتحدة بأنها ستتجاوز الصين لتصبح الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم مع نهاية نيسان الماضي، تواجه الهند اضطرابا ديموغرافيا في وقت تمر فيه البلاد  بمخاض التوجه الهائل نحو المدن، والذي يعد ثاني أكبر هجرة من الريف إلى المدينة في تاريخ البشرية. يشير الخبراء إلى أن الوضع الجديد للهند يسلط الضوء على عائدها الديموغرافي بوصفها تضم أكبر عدد من العمال الشباب، لكن التحدي الأكبر لها هو خلق فرص عمل ووظائف كافية لهم، وهذا هو المحفز الرئيس للهجرة.

اذ لا يجني الناس ما يكفي من مال في قراهم الريفية؛ حيث يسكنون، لذا نراهم يتدفقون نحو المدن بعشرات الملايين، وهاجسهم، بين الأمل واليأس، البحث عن فرصة أفضل في المدن الكبيرة. ففي مركز الهند المالي، مومباي، تدافع حشد من الشباب إلى الأمام، فيما كان رجال الشرطة يحاولون فرض النظام وهم يلوحون بالهراوات، بعد أن حضر 650 ألف من المتقدمين للوظائف من جميع أنحاء الولاية، لتصبح المنافسة شرسة فيما بينهم لشغل ثمانية آلاف وظيفة فقط. 


اقتصاد سريع النمو

كانت هذه المحاولة الثالثة لسونيل بامبل، الذي يضطر في كل مرة للسفر مسافة مئتي كيلومتر أملا بفرصة أخرى جديدة. رافعا يديه للدعاء بنجاح محاولته بعد أن استوفى جميع الأوراق المطلوبة. يقول بامبل: "حياتي كلها ستتغير إذا ما حصلت على هذه الوظيفة، فسيكون لدي دخل ثابت، وأحظى بأمان وظيفي، وسأتمكن حينها من التفكير بالزواج". 

ينعكس هذا القلق جليا في تقرير للأمم المتحدة صدر مؤخرا، أشارت فيه إلى أن 63 بالمئة من الهنود هم الأكثر اهتماما بقضايا الاقتصاد عندما يتعلق الأمر بالمسائل ذات الصلة بالسكان.

وفقا لمركز مراقبة الاقتصاد الهندي Centre for Monitoring Indian Economy  (CMIE)، فإن الاقتصاد ينمو بوتيرة سريعة، ما يعني خلق سوق كبيرة للعالم، لكن نسب البطالة فيها وصلت إلى ثمانية بالمئة، ويتضح ذلك بصفة خاصة، بين أوساط الشباب الذين حصلوا على تعليمهم لكنهم ليسوا من النوع المطلوب لمواكبة النمو في وظائف الخدمات الراقية، كالبرمجيات والمالية المشغّلين الرئيسيين لهذا النمو. 

يقول بامبل بأنه في حال لم يحصل على وظيفة أحلامه، سينتقل إلى المدينة بالرغم من أن الأمر سيكون جهودا مضنية مضافة بالنسبة له، بقوله: "هناك العديد من الخيارات للعمل، لكن هناك الكثير من الصعوبات كذلك"، مضيفا: "هنا عليّ تحمل تكاليف أكثر بكثير مما أتحمله في القرية، ولن أكون قادرا على حياة رغيدة، مع ذلك، أنا مستعد للانتقال إلى المدينة". تعد هذه الحالة بمثابة "مقامرة" يقدم عليها الكثيرين من سكان بلدة "نالا سوبارا"، الواقعة في ضواحي مومباي، وهي عبارة عن مجتمع مهاجرين، نما بنسبة 200 بالمئة على مدى العشرين عاما الماضية.


أحلام تصطدم بالواقع

في إحدى مناطق إسكان ذوي الدخل المنخفض، يتدلى الغسيل من النوافذ عبر أزقة ضيقة، فيما يتجمع الأطفال في ممراتها ومداخلها، ومن داخل بعض غرف منازلها المظلمة، تظهر نساء يقمن ببرم الأسلاك مع البلاستيك لصنع دبابيس الشعر، بالرغم من كونه عملا متواضعا، لكنه يعينهن في كسب لقمة عيش. 

تقول رانجانا فيشواكارما (33 عاما) مبتسمة، "سأتمكن من شراء كل ما أحتاجه لنفسي، سيمكنني شراء "ساري" جديد، أو الحصول على ما يحتاجه طفلي لمدرسته، من كتاب أو قلم أو ممحاة، لم أعد اعتمد على زوجي في كل شيء". 

على مدى عشر سنوات، تسكن فيشواكارما مع ابنها، الذي كان جالسا بهدوء منشغلا بالدراسة، في غرفة واحدة مع مطبخ، لكنها تؤمن بأنه سيكون له مستقبل أفضل، بقولها: "لطالما يتلقى تعليمه في المدينة، سيكون له شأن فيها، سيحصل على وظيفة ويمضي قدما في حياته هنا".

أما جار فيشواكارما، فيشال دوبي، فينحدر من ولاية أوتار براديش، شمالي الهند، ويعمل مندوب مبيعات لدى إحدى شركات الأنترنت، وهي وظيفة تتطلب العمل الشاق لمدة 12 ساعة متواصلة والتنقل لمسافات طويلة. لكنه، ايضا، قادر على مساعدة والده، الذي يعمل على عربة "ريكشا" (عربة بعجلتين يجرها إنسان تتسع لشخصين أو ثلاثة)، ودفع الفواتير الطبية لوالدته، ومؤخرا، قام بالتسجيل لشراء منزل سيدفع ثمنه بالتقسيط. ورغم أنها أحلام صغيرة بإمكان دوبي تحقيقها، لكنه لديه أحلام كبيرة، اذ يقول: "لدي أمل بكسب المزيد لأساعد أهالي المدينة حيث مسقط رأسي"، مضيفا: "أتمنى أن يصبح أهالي مدينتي أغنياء حتى لا يضطروا للهجرة إلى المدينة، لا أريد لهم مواجهة الصعوبات التي أواجهها". قد يبدو إن هذا حلم لا يتناغم والواقع الهندي، اذ تشير التقديرات إلى أن 800 مليون هندي، على أقل تقدير، سيسكنون مراكز حضرية بحلول منتصف القرن، أي أكثر من نصف إجمالي سكان البلاد.


*صحيفة الغارديان البريطانية