كيف تداعت أحلام بوتين في البحر الأسود

بانوراما 2023/05/23
...

 إليى كوك

 ترجمة: بهاء سلمان

مع وصول البارجة الأهم لأسطولها في البحر الأسود، موسكفا (Moskva)، إلى أعماق قاع البحر خلال شهر نيسان من العام الماضي، أصرّت روسيا على أن أوكرانيا لا علاقة لها بغرق سفينة الصواريخ الموجهة بطاقهما البالغ تعداده 510 فردا.

قدّمت وسائل الإعلام الحكومية الروسية تفسيرات مختلفة لغرق السفينة الرئيسة البارزة، لم يتضمّن أي منها هجوما أوكرانيا مخطط له سابقا. وقالت وزارة الدفاع الروسية إن "حريقا" أعقبه "انفجار ذخيرة" كان قد ألحق "أضرارا جسيمة" بالسفينة، ما عجل في إجلاء طاقمها. 

وقالت الوزارة في ذلك الوقت، بحسب وسائل إعلام رسمية، أن "انفجارات الذخيرة توقفت بعد ذلك"، مضيفة أن السفينة لا تزال طافية ويجري نقلها إلى الميناء.

في نهاية المطاف، غرقت السفينة قبل وصولها إلى الميناء بعد أن فقدت "الاستقرار بسبب الأضرار التي لحقت ببدنها" أثناء حدوث "عاصفة شديدة"، بحسب بيان الوزارة. 

لكن هذه ليست نسخة الأحداث التي قدّمتها أوكرانيا، أو الدول الغربية الداعمة لها. 

فقد كتبت إدارة حكومية تابعة لاوكرانيا، تتخذ من مدينة أوديسا المطلّة على البحر الأسود مقرا لها، أنه في 13 نيسان 2022: "تسبّبت صواريخ نبتون التي تقوم بدور الحراسة للبحر الأسود بوقوع أضرار جسيمة للسفينة الروسية". 

وفي اليوم التالي، لمح "جون كيربي"، السكرتير الصحفي للبنتاغون آنذاك، إلى أن صاروخاً أوكرانياً ربما كان وراء حادثة الغرق، قائلاً إن الولايات المتحدة "ليست في وضع يسمح لها بدحض" مزاعم أوكرانيا.

لكن بعد مرور عدة أيام، تمعّن البنتاغون في دعم رواية كييف، مشيراً إلى أن السفينة يبدو أنها غرقت بنيران صواريخ أوكرانية. 

وقال الأدميرال السابق في البحرية الملكية البريطانية "كريس باري" لبي بي سي إن اللقطات التي تظهر على ما يبدو غرق "موسكفا" لم تترك "أي شك بأنها قد أصيبت بصاروخ أو صاروخين".


تداعيات غرق موسكفا

مثلت حادثة غرق السفينة لحظة حاسمة بالنسبة لروسيا، عسكرياً ونفسياً، وفقا لرأي الخبراء. 

وقالت وزارة الدفاع الروسية بعد اسابيع قليلة من الحادث إنه تمَّ إجلاء أفراد طاقم موسكفا، لكن جنديا واحدا توفي وأعلنت الوزارة عن فقدان 27 آخرين. 

وتقول أوكرانيا إن الحادث أسفر عن مقتل ما يصل إلى 250 بحارا. 

وصرّح نائب الأدميرال الأميركي المتقاعد "روبرت موريت"، نائب مدير معهد سيراكيوز لسياسة الأمن والقانون، للصحافة إن وضوح فقدان السفينة الرئيسية لأسطول كامل للروس قد جذب الانتباه بشكل حتمي.

كما أكد الخبير العسكري الأميركي "ديفيد ستون" إنها كانت بالتأكيد "خسارة اعلامية كبيرة" للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

كانت القراءات العسكرية عن كيفية استخدام الأسطول العسكري الروسي للبحر الأسود في المستقبل محل تأمل كبير، حيث أثبتت تلك الحادثة أن أية سفينة روسية من أي نوع تفكر في الاقتراب من المياه الساحلية لأوكرانيا ستكون موضع تهديد، كما يضيف موريت. 

ونتيجة لذلك، كانت روسيا بشكل عام أكثر حذرا مع سفنها منذ حادثة الغرق، حسبما يقول ستون. ويقول "مارك غروف"، المحاضر الأقدم في مركز الدراسات البحرية بجامعة لينكولن في كلية بريتانيا البحرية الملكية بمدينة دارتموث البريطانية: "لقد كان للحادث تأثيرٌ كبيرٌ على شعور الروس بقدرتهم على الانتشار هناك، لا سيّما سفنهم الحربية الظاهرة على وجه الماء". وقالت وزارة الدفاع البريطانية بعد اختفاء السفينة في أعماق البحر الأسود، إن السفينة نفسها كان لها "دور رئيس" بالنسبة لروسيا، حيث كانت لديها وظيفتان مهمتان. فهي سفينة قيادة، وكذلك محور للدفاع الجوي. وذكرت "تريسي جيرمان"، أستاذة الصراع والأمن في قسم الدراسات الدفاعية في كينجز كوليدج بلندن، أن السفينة التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، والمسماة بالأصل "سلافا"، قد أعيد تسميتها باسم موسكفا سنة 2000، وهو العام الذي تولى فيه بوتين السلطة.

ومع ذلك، فإن الهدف الأساسي لموسكفا في قتال السفن الأخرى لم يكن مناسباً بشكل خاص لهذه الحرب، كما أن إخراج قدراتها الدفاعية الجوية لم يكن ليمثل خسارة ستراتيجية لروسيا بالقدر المتوقع له. 

وعلى أي حال، فإن هذا يعني أن الأسطول الروسي الموجود في البحر الأسود فقد منصته الأساسية للدفاع الجوي. وبحسب "سيدهارث كوشال"، الباحث في الطاقة البحرية في معهد رويال يونايتد للخدمات البحثية. 

وبعد غرق موسكفا، أشار كوشال إلى أن الأسطول الروسي المنتشر في تلك المنطقة "لم يعد بإمكانه العمل بأمان قبالة سواحل أوكرانيا".

لفت غرق موسكفا الانتباه إلى أسطول "البحر الأسود" الروسي، حيث يصف بعض الخبراء ذلك الأسطول بأنه قوة أخفقت في تحقيق الصورة المؤثرة الكبيرة على الغزو الروسي لأوكرانيا. ويرى بعض المحللين بأن هذا الأسطول يفتقر إلى الردع النووي للأسطول الشمالي الروسي وأدوات العمل اللازمة لإحداث فرق عسكري واضح لصالح روسيا.بيد أن غرق موسكفا أبرز تهديدا واحدا على وجه الخصوص، كما يقول الخبراء، يتمثل بحجم مخزون أوكرانيا الخطير من الصواريخ المضادة للسفن، والأضرار التي يمكن أن تلحقها ليس فقط بالأسطول الروسي في البحر الأسود، وإنما بسمعته المعروفة للجميع.

ويقول غروف إن غرق السفينة "عزز من خطر الصواريخ الأوكرانية المضادة للسفن" على القطع العسكرية الروسية المنتشرة، وأن البحرية الروسية "تكافح للتعامل مع هذا التهديد". وأضاف المحلل العسكري إن "العنصر النفسي القوي للغاية" قد اجتمع لإجبار روسيا على الابتعاد عن سواحل أوكرانيا، وهو ما مثل بلا شك "صدمة" لروسيا، حتى مع كون موسكفا سفينة حربية قديمة.

الصواريخ الأوكرانيَّة الخطيرة

منذ غرق موسكفا، ظل الأسطول البحري الروسي في البحر الأسود عالقاً إلى حد كبير بالقرب من قواعده. ويقول كوشال إن البقاء بالقرب من شواطئ شبه جزيرة القرم، التي كانت قد ضمت لروسيا قبل سنوات، وفر للأسطول حماية دفاعاته الجوية. تمتلك روسيا قاعدتين على البحر الأسود، إحداهما في سيفاستوبول قرب ساحل القرم والأخرى في نوفوروسيسك، ضمن منطقة كراسنودار الروسية. 

ويقول كوشال إن القرم تعد "منصة حيوية لإبراز القوة" يعتمد عليها أسطول البحر الأسود، والتي، بخلاف نوفوروسيسك، "يمكن استخدامها بشكل موثوق على مدار السنة".

وتقول جيرمان إن البحر الأسود يعد "نقطة مفصلية للستراتيجية البحرية الأوسع لروسيا" بسبب ارتباطه بالبحر المتوسط وما وراءه. 

وأضافت إن أسطول البحر الأسود يعد بالتالي "نقطة انطلاق لطموحات البلاد في أن تصبح قوة بحرية عالمية". 

يقول كوشال إن: "التحدي الذي واجهه الروس في البحر الأسود هو أنهم لم يتوقعوا تهديداً أوكرانياً صاروخياً مضادا للسفن منذ الأيام الأولى للصراع،" وأضاف أن صواريخ نبتون الأوكرانية الصنع، التي يُعتقد أنها أغرقت موسكفا، تم تتبعها بسرعة من قبل كييف، متسببا بسلب روسيا من "الوسط المفتوح" الذي كانت تعتقد بحضورها فيه.

تلقت أوكرانيا أسلحة مضادة للسفن من حلفاء مثل بريطانيا والدنمارك، وقالت وزارة الدفاع الأوكرانية مطلع الشهر الماضي إن صواريخ هاربون المضادة للسفن، التي تلقتها من الدنمارك لعبت دورا رئيسيا في العمليات الأوكرانية وسط البحر الأسود. وقال وزير الدفاع الأوكراني "أوليكسي ريزنيكوف": "جنبا إلى جنب مع صواريخنا من نوع نبتون، تجبر صواريخ هاربون بالفعل أسطول العدو على البقاء على مسافة، لتجنّب مصير سفينة قيادة أسطول البحر الأسود الروسي موسكفا".

وفي تصريحات جديدة قبل عدة أيام، أشار ريزنيكوف إلى أن الجيش الأوكراني لديه "مفاجأة" أخرى في البحر "مخبأة للبحرية الروسية،" مشيرا إلى غرق موسكفا، مضيفا: "إننا ننتظر اللحظة المناسبة لتكرار هذه القصة".


التهديدات الجديدة 

ويقول الخبراء إن الطائرات المسيّرة الأوكرانية والسفن السطحية غير المأهولة مثّلت أيضا خطرا على القوات الروسية المتواجدة في البحر الأسود. ويقول كوشال إن الطائرات المسيّرة جعلت شمال البحر الأسود "بيئة شديدة الخطورة" بالنسبة لروسيا. كما أشار البنتاغون، إلى أنه بعد غرق موسكفا، نقلت روسيا سفنها إلى مناطق أبعد إلى جنوب البحر الأسود.

تم تسجيل عدة ضربات أوكرانية بواسطة الطائرات المسيّرة والسفن السطحية، لا سيّما في سيفاستوبول خلال الشهور الستة الماضية.

 وبعد الهجمات الأولى، علّق بوتين مشاركة روسيا في صفقة الحبوب، وهي اتفاقية توسطت فيها الأمم المتحدة وأنقرة لتخفيف آثار الحصار الروسي على الصادرات الغذائية الأوكرانية، التي أصبحت تكتيكا رئيسيا في البحر الأسود. وتقول بعض التقارير إلى أن السفينة الرئيسية البديلة، فرقاطة الأدميرال ماكاروف، وهي من فئة الأدميرال غريغوروفيتش، قد تضرّرت في هجوم تشرين الأول 2022.

ولمواجهة الطائرات المسيّرة والصواريخ المضادة للسفن، "لعب أسطول البحر الأسود دور منصة إطلاق للصواريخ المبرمجة، وهو نمط من المرجح أن يستمر"، بحسب كوشال. 

لكن كوشال يشير إلى أنه برغم أن الصواريخ الأوكرانية المضادة للسفن قد "قيّدت بشدة" روسيا في شمال البحر الأسود، فإنها لا تمنح أوكرانيا قدرات بعيدة المدى لضرب سفن موسكو في قلب سيفاستوبول. 

لهذا، تحوّلت أوكرانيا إلى أمثال الطائرات المسيّرة والسفن السطحية غير المأهولة.

ويقول غروف إن استخدام السفن السطحية غير المأهولة أثر في قرار روسيا بنقل بعض سفنها بعيدا عن سيفاستوبول. 

بحلول نهاية نيسان من العام الماضي، بقيت هناك نحو 20 سفينة، بضمنها الغواصات، في منطقة البحر الأسود، وفقا لوزارة الدفاع البريطانية. 

وقال غروف إن السفن السطحية غير المأهولة واستخدام الطائرات المسيّرة "من أهم التطوّرات في الجانب البحري للحرب الروسية الأوكرانية،" كما كان الأثر واضحا لشعور الروس بقدراتهم الفعلية".


"المأزق البحري"

تقول جيرمان إن أسطول البحر الأسود لعب في النهاية "دورا داعما" في غزو أوكرانيا. وأضاف غروف إنه مع تحركات روسيا العملياتية ضمن "مسرح غير عادي"، أدى بها إلى أن تصير عالقة وسط "الجمود البحري" مع أوكرانيا في هذا البحر المغلق الذي تسيطر عليه تركيا. 

ولكن ليس هذا فقط، فهناك ثلاث دول في حلف شمال الأطلسي، تمتلك منفذا مباشرا إلى البحر الأسود، وهو أمر تدركه روسيا تماما، وفقا لموريت.

يشير بعض الخبراء إلى فشل ستراتيجية بوتين البحرية في البحر الأسود، حتى قبل غرق موسكفا العام الماضي. ويتوقع غروف أن تدعم البحرية الروسية الاستيلاء على مدينة خيرسون بجنوب أوكرانيا أثناء تحركها صوب أوديسا، وشن "هجوم برمائي كبير إلى حد معقول" لمحاولة تطويق الجيش الأوكراني.

وفي خطوة تتسق مع العقيدة العسكرية الروسية والسوفياتية، لم تتمكن روسيا من القيام بها بشكل آمن، حيث فشلت قواتها في التقدم إلى أوديسا، لأن الشواطئ الأوكرانية تعد غير آمنة بشكل كبير جدا. وقال غروف إن هبوط سفن الإنزال على شواطئ أوديسا كان محفوفًا بالمخاطر للغاية مع وجود الألغام وأنظمة الصواريخ والدفاعات الأوكرانية.

"الستراتيجية البحرية الأصلية التي نعتقد بحضورها في أذهان بوتين وجنرالاته وأدميرالاته لا يمكن تحقيقها، وأعتقد أن هذا أمر مهم للغاية علينا أن ندركه". حتى الآن، لا يمكن لروسيا أن تفكر في شن مثل هذه العمليات البرمائية، لأسباب ليس أقلها أن قواتها المتخصصة، بما في ذلك مشاة البحرية، قد تعرّضت لهجمات برية في أماكن أخرى من أوكرانيا، كما يقول الخبراء. ويقول غروف "إنهم ببساطة يفتقرون إلى القدرة على شن مثل هذا الهجوم".

إلا أن الخبراء أشاروا إلى أن روسيا قد حققت نجاحا جزئيا في عنصر واحد، حيث تقول جيرمان إن الكرملين حافظ على سيطرته على صادرات الحبوب الأوكرانية، والتي تتوقف على صفقة الحبوب، ما يعني أن "تأثير الحرب في أوكرانيا يتم الإحساس به في أماكن أخرى بعيدة جدا عن المنطقة". 

وأضافت أن روسيا تفرض حصارا فعليا على بحر آزوف منذ سنوات، مما يشير إلى أن موانئ آزوف الأوكرانية في ماريوبول وبيرديانسك، عانت على أيدي البحرية قبل وقت طويل من اندلاع الحرب بشكل كامل.

وتوضح جيرمان رأيها بالقول: "لقد سيطرت روسيا بشكل أساس على عمليات التحميل والتفريغ في اثنين من أهم موانئ أوكرانيا، وخلال السنوات التي سبقت غزوها في عام 2022، فرضت قيودا على الاقتصاد الأوكراني، ما أثر في الناتج المحلي الإجمالي والتطوّر الاقتصادي للبلاد".

ومع ذلك، يقول ستون إنه "ليس من الواضح ما إذا كان هناك دور معيّن لأسطول البحر الأسود يلعبه الآن في الحرب بوضعها الحالي." 

عموما، هناك درجة من "الركود" تسود الوضع القائم في البحر الأسود، بحسب غروف، مضيفا أنه "ليس هناك الكثير من الدلائل على أي تغيير على المدى القريب،" ومن المرجح أن تبقى البحرية الروسية بعيدة عن السواحل الأوكرانية، لكنها تواصل شن هجمات بالصواريخ المبرمجة.