الذوق الفني وحكم الآخرين

منصة 2023/05/24
...

   علي حبيب

من اللافت أن هناك تشابهاً كبيراً في تذوق الناس لفنان ما، أو تشابهاً في الزي يختلف من منطقة لأخرى، اذ نرى أن بعضاً من سكان المدينة، يرتدون ثياباً متشابهة أو يستمعون إلى مطرب ما، يختلف من مكان إلى آخر. ثمة تجانس غريب يطغى على البلدة الواحدة، وتماثل في الأزياء والاذواق والافكار.

فنرى في المدن الفقيرة هيمنة للأصوات الريفية والرجولية على الاصوات الشفافة والرقيقة. عكس مراكز المدن التي تفضل الاخيرة على الفن الريفي، هذا ما يدعونا الى تساؤلٍ آخر اهم، إلا وهو هل هناك رابط بين الذوق العام والجانب الاقتصادي؟

الإجابة تكاد تكون باديةً بارتداء الثياب، بسبب البراند والماركات العالمية باهظة الأسعار.

الغريب في الأمر أن الاستماع للأغاني متاح للجميع باعتبارها مجانية. وليست حكراً على فئة دون فئة.

"ذات مرة كنا نتجول أنا وبعض الاصدقاء، فقال لي: شغّل اغاني من هاتفك.

وعندما فعلت ذلك نظر لي باستغراب! هل حقاً هذا ذوقك؟ قال لي.

فأجبته إنها اغانٍ جيدة. فقام بتشغيل هاتفه الذي كان مملوءاً باغانٍ ريفية وأصوات لم أسمعها من قبل.

فقلت له، هل حقاً هذه الاغاني موجودة في اليوتيوب؟ فضحك. على الرغم أن المسافة بين سكني وسكناه لا تتجاوز الـ70 كيلو متراً".

بالطبع أن الذوق مسألة ذاتية، ومن المعيب أن يكون ذوق الآخر محل نقاش. ولا نستطيع البرهنة على أن ذوقي في مجال ما افضل من ذوق شخص آخر.

وفي هذا الصدد يشدد ديفيد هيوم على التربية والخبرة، فيرى أن أصحاب الذوق يكتسبون قدرات معينة تؤدي إلى اتفاقهم حول ما يُعد الأفضل من بين الفنانين والاعمال الفنية، ومن ثم سيصل هذا الجمع في نهاية المطاف الى اتفاق جماعي. من ثم يرسون على (معيار للذوق) يميز بين الاعمال الرفيعة وبين الاعمال الأقل جودة.

فيما أن ايمانويل كانط، يناقض تماماً ما ذهب اليه هيوم. إذ يرى كانط، أن الاحكام الجمالية الجيدة تكون متأصلة في الاعمال الفنية ذاتها. اي أن الحكم الجمالي لا يكون ذاتياً فقط. وهذا الحكم في رأينا هو الافضل لأنه لا يقتصر على الذات فقط، وإنما وفق خصائص يحملها العمل الفني، على اساسها يتم الحكم على العمل بوصفه جيداً أو غيرَ جيد.

خذ صوت السيدة أم كلثوم على سبيل المثال، صوت فريد لا يجب أن يكون موضع خلاف. صوت يجعل كل من ينصت اليه يرضخ لقيمة العمل الفني الذي يقدمه. صوت يجيد ويجسد الفرح على اتم وجه، فيجعل من ذواتنا تسبح وسط كوم الأحاسيس المفعمة بالحياة.

وكذلك تجيد السيدة الحزن اكثر من الثكالى والفاقدين. هذا التجسيد والانغماس في العمل هو الوظيفة الحقيقية، التي تجعل من الفنان يعي ما يفعل ويضفي قيمته الذاتية على العمل فيكتسب الأصالة، فالمزواجة بين الذات والمادة الخام هي التي تعطيها سمة الفرادة.

لكنْ هناك ترابطٌ غريبٌ وغير منطقي باقتران شيء مع سمة او خاصية نقيس من خلالها الحكم الجمالي، ارتباط هزلي، كارتباط القهوة بالمثقف! لماذا ليس اللبن؟ مع العلم أن لونه ابيض وفوائده جيدة للمعدة ويحتوي على بروتينات أكثر؟.

كذلك الاحكام الجمالية، تأخذ تلك السمة التي تشبه مسألة القهوة والمثقف لكن على صورة اوسع بعض الشيء. بعيداً عن اللبن.

تذكر سنثيا فريلاند في كتابها (نظرية الفن).

إن الناس في الولايات المتحدة يأبون الاعتراف بأن الطبقية لها وجود وبأنها شيء ذو بال. ومع ذلك، فإن الاختلافات قد لوحظت، بل أنها كانت توجه الحبكات الدرامية في أفلام هوليوود الشهيرة من قبيل فيلم المرأة الجميلة (pretty woman) الذي يصور هذا الفيلم البطلة الجميلة التي تعمل مومس، والتي جسدتها الممثلة الاميركية الشهيرة جوليا روبرتس، اذا تلتقي البطلة برجل اعمال ناجح ومن ثم يتزوجها، ليقوم هذا رجل الاعمال الثري المثقف بتعليم تلك المومس كيفية انتقاء ملابسها وكذلك يجعلها تسمع الأوبرا. اذ يحيل الاستماع إلى الأوبرا في الافلام أو يفصح دائماً عن استعراض واضح لمكانة الطبقة العليا المرفهة، بينما تشير فريلاند أن الاستماع أو الاعجاب بموسيقى الغرب الريفية يكشف العكس، لأن من يتذوق هذا النوع الاخير يكون خشن الطباع بالعادة أو من الطبقة الريفية الكادحة. لذلك هناك إشارات واضحة تطرحها الافلام أو الروايات في تمييز الطبقات الارستقراطية وبقية الطبقات المرفهة، من خلال تذوقهم للطعام أو في احتسائهم للقهوة على باقي المشروبات، وكذلك استماعهم 

للموسيقى.

لذلك أن فهم الذوق أو الفن يشكل جزءاً مهماً في كشف او فهم بيئة ما، وهذا ما يؤكده

(جون ديوي) أذ يرى بأن "الفن كان أفضل أسلوب لفهم ثقافة ما... وأن فهم الفن يشبه فهم شخص آخر". ففهمنا للفن ومعرفتنا بالأذواق ينتج لنا اكتشاف ثقافة اخرى، فيصبح الفن نافذة نختلس منها النظر إلى الآخرين بغية اكتشاف أو إشباع فضولنا المعرفي.

فالأهمية التي اعطاها دوي للفن لا تقل عن العلم، لأنه هو أيضاً يعد مصدراً للمعرفة فليست الاعمال الفنية تمثل نوعاً من الترف أو نشاطاً منعزلاً، او مقصوراً على الصفوة، بل للفن دور كبير في إثراء عالمنا وادراكنا.