كيف انطلت مذكرات هتلر المزيفة على مجلة المانية؟

بانوراما 2023/05/24
...

 سيلكا فينوش

 ترجمة: شيماء ميران

قبل اربعين عاما، هزت مجلة "شتيرن" الالمانية العالم بضجة يوميات أودولف هتلر المزورة. لكن سرعان ما اتضح أنها أضخم قصة إخبارية مزيفة في تاريخ الصحافة الالمانية. ففي اواخر نيسان 1983، اجتمع 27 طاقما تلفزيونيا، ونحو مئتي صحفي في دار(Gruner & Jahr- غرنر وديار) وسط هامبورغ بانتظار ما ستقدمه مجلة "شتيرن". وظهر رؤساء تحرير المجلة وهم يحملون 12 دفترا أسود مليئا بملاحظات شخصية لهتلر. وانتشرت صور مراسل المجلة "غيرد هايدرمان" مع دفتر اليوميات، إلى جانب تقارير عن هذا الاكتشاف المثير.
بعد ثلاثة ايام، نشرت المجلة طبعة خاصة بمقتطفات من اليوميات، وزادت مبيعاتها بـأربعمئة نسخة عن المليوني نسخة المعتادة تقريبا، وكلّف هذا الاصدار خمسين فنغا اضافيا اي ما يعادل (ربع يورو تقريبا). وقال رئيس تحرير المجلة "بيتير كوخ": "يجب إعادة كتابة اجزاء كبيرة من تاريخ الرايخ الثالث".


رائحة الفم الكريهة

كان النص مليئا بالملاحظات الشخصية، على سبيل المثال، ارادت "إيفا براون" رفيقة هتلر شراء تذاكر مجانية لدورة الالعاب الاولمبية لعام 1936، ما ازعج هتلر. كما طلبت منه بأن يذهب للطبيب من أجل صحته: "بحسب طلب ايفا، جعلت طبيبي يفحصني بصورة صحيحة. والحبوب الجديدة تسببت لي بانتفاخ شديد، وحسب قول إيفا، فإن رائحة فمي كريهة".

كان المؤرخون والزملاء من دور الاعلام الاخرى حذرين من الكتابات، ولم يصدقوا أنها حقيقية. وفي ختام الامر، قدّم مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية رأي الخبراء بأن إثبات التزوير كان تافها لدرجة لا يمكن دحضه، إذ كُتبت اليوميات على ورق لم تكن نوعيته موجودة في عصر الرايخ الثالث، لكنه ظهر في الخمسينيات. ما دفع المدعي العام لفتح تحقيق 

بذلك.

انتهى الامر بالمراسل "غيرد هايدرمان" والمزور "كونراد كوياو" في المحكمة، وحكم عليهما بالسجن. وفي العام 2000، توفي "كوياو" بعد صراع مع مرض السرطان، بينما يعيش "هايدرمان" حياة متواضعة في هامبورغ. ووصفت "شتيرن" هذه الفضيحة بانها (الأكبر في تاريخ المجلة)، واستغرق التعافي من احراجها عدة 

سنوات. 

قضى المزور "كونراد كوياو" سبعينيات القرن الماضي منتحلا شخصية تاجر للتحف والانتيكات، وامضى سنوات في تزويد رجل الاعمال "فريتش شتيفل" بقطع أثرية حقيقية للنازية، ومنها مخطوطات وأعمال فنية تعود لهتلر. إذ عرض على جامع التحف والانتيكات أول يوميات مزورة لهتلر، وقارن "شتيفل" هذه الوثيقة مع مخطوطات هتلر الاخرى، واُعلن ان اليوميات

اصلية.

ثم عرضها على "غيرد هايدرمان" مراسل مجلة "شتيرن"، والذي كان شغوفا بجمع التذكارات النازية، وكان لديه حدسا بأن هذا سيثير ضجة. ورجح أن مذكرات هتلر عُثر عليها ضمن موقع تحطم طائرة نازية في ألمانيا الشرقية، وزار الموقع وهو على قناعة بصحة العثور على الكتب. ثم أبلغ زملاءه في "شتيرن" واتصل بكوياو. وعرضت المجلة مبلغ مليوني مارك الماني (يعادل مليون يورو) مقابل اليوميات.

فُحصت اليوميات الثلاث الاولى في الحال، وقرر مؤرخون مشهورون وخبراء الارشيف الفيدرالي ومكتب الشرطة الجنائية في ولاية "راينلاند بالاتينات" أنها أصلية. ولم يلاحظ أحد أن بعض عينات الكتابة المقدمة 

إلى الخبراء قد صاغها "كوياو".


متاحة للجميع 

بعيدا عن التناقضات، كان هتلر معروفا بالكسل في الكتابة، فمن الغريب أن رجلا يوصف بأنه غير صبور ومندفع يكتب كل تلك اليوميات بخط يد منظم وبدون اخطاء. ومن اكثر الاشياء وضوحا التي لم تثر الانتباه، الحرفان "FH" كانا مزخرفين بنمط الكتابة القديمة على اغلفة المذكرات، وهو ما دافعوا عن صحته، إذ اتفقوا بأنها الأحرف الاولى لـ"الفوهور هتلر".

أصبحت فضيحة الصحافة منذ ذلك الحين مادة للعديد من المسلسلات والافلام التلفزيونية، حتى ان الفيلم "شتونك" للمخرج "هيلموت ديتل" رُشح لنيل جائزة الاوسكار عام 1992. كما حول البريطانيون القصة الى مسلسل كوميدي قصير"بيع هتلر" عام 1991 والذي ألهم مؤخرا العمل الالماني "هتلر المزور" عام 2021.

اليوم، وبعد مرور اربعين عاما على الفضيحة، نشرت محطة الإذاعة العامة الألمانية NDR جميع اليوميات المزيفة على الإنترنت، ونسخة مشروحة علميا على الإنترنت تم إصدارها في شباط الماضي.

ووضع المؤرخ والعالم السياسي "هايو فونكا" الوثائق في سياق تاريخي مناسب، وقُورنت الحقائق التاريخية بدقة مع نصوص كوياو. ويسمح الجدول الزمني للمستخدم الوصول الى السنوات الفردية، ومن خلال ميزة البحث يصل الباحثون مباشرة عند ادخال كلمات لها علاقة بإيفا، و"جيوبليس" و"ستالين" و"اليهود" و"موسوليني" وحتى الرائحة الكريهة.

على مر عقود، لم يتمكن الكثير من الخبراء الوصول إلى المواد المزورة. واليوم يمكن لأي شخص أن يتصفح ما منسوب  إلى هتلر، فالناشر احتفظ حتى الآن بمعظم الوثائق المربكة، بعد ان قدم عشرة فقط من اصل ستين دفترا إلى الأرشيف الفيدرالي لفحصها. 


الانجذاب الى هتلر

حوّل "كوياو" في مذكراته الخيالية هتلر إلى شخص طغى عليه الاضطهاد وإبادة اليهود خلال حكمه. وكتب في نسخته هذه نهاية نيسان 1933: أن "اول الإجراءات المتخذة ضدهم كانت عنيفة للغاية بالنسبة لي؛ وقد حذرت الرجال المسؤولين عنها فورا، وكان لا بد من طرد بعضهم من الحزب". وفي تعليق هتلر المزيف على ليلة مذبحة الرايخ التي حدثت مطلع تشرين الاول من العام 1938، يدين اعمال العنف ضد اليهود: "ليس من الممكن ان يدمر بعض المتهورين اقتصادنا، وموت الملايين وتناثر الزجاج (في مذبحة ليلة الكرستال). علمت ببعض الهجمات البشعة التي يرتكبها بعض الذين يرتدون الزي الرسمي، وقتل اليهود وانتحارهم، هل اصيبوا بالجنون؟ ماذا ستقول الدول الاجنبية؟".

في مؤتمر "وانسي" الذي عُقد في كانون الثاني 1942، جاء في مستهل اليوميات: "انا في انتظار تقارير المؤتمر بخصوص المسألة اليهودية، إذ يجب أن نجد مكانا في الشرق يمكن لليهود العمل فيه وكسب رزقهم. لقد طلبت حلا سريعا من المشاركين في المؤتمر. بالتأكيد ينبغي أن يكون هناك مكان في الشرق يمكن لليهود العيش فيه."

تقول اذاعة (NDR) إن النصوص تعكس انجذاب الناس، ولكنها جاءت أيضا في سياق يميني راديكالي رافض للهولوكوست. ولم تكن قصة أكبر فضيحة صحفية ألمانية في كيفية تمكن مزور بارع من خديعة رؤساء جريدة اسبوعية ألمانية شهيرة فحسب، بل كانت مرآة ساعدت الألمان قبل اربعين عام، على معرفة من هو هتلر الذي كان مصدر اهتمام الكثيرين، فضلا عن حماسهم لمعرفة رجل لم يُصور على أنه مجرم حرب وقاتل جماعي، وإنما رجل دولة مسؤول لم يدر في فكره معسكرات الإبادة، بقدر انشغاله بمشاعر "إيفا براون"، وإضفاء الطابع الانثوي على "جوزيف غوبلز" وقضاياه الخاصة مع انتفاخ البطن.


عن قناة دويتشه فيله