ورقة الانتاجيَّة

الصفحة الاخيرة 2023/05/30
...

حسن العاني



في وقت مبكر من تسعينيات القرن الماضي تولى الزميل نصر الله الداوودي، رئاسة تحرير جريدة العراق.. كان شاباً في مقتبل العمر، ولم تكن لديه الخبرة الكافية لتولي هذا المنصب، ناهيك عن كفاءته الصحفية المتواضعة، ولكنه بالمقابل  (موظف) جاد ومخلص في عمله، واداري جيد، على أن السمة الايجابية في شخصيته الانسانية تتمثل في طبيعة علاقته مع المنتسبين، التي لم تفسدها مزايا المنصب، هذا غير كونه بخلاف الكثيرين ممن وصلوا الى هذا المنصب، بحكم هذه المصادفة الغريبة أو تلك المصادفة الأغرب، وهي حرصه على تطوير قدراته، حيث لم يكن يتحرج عن سؤال أي زميل من زملائه القدامى عن الأوفق في استعمال هذه المفردة أو تلك الجملة أو ذلك التعبير ..

كان الرجل شجاعاً بحق، فيوم أصدر رئيس النظام السابق أمره بمنعي من الكتابة مدى العمر في اية وسيلة إعلاميَّة، تصرف الداوودي برجولة، حيث كان يصرف لي أجوري التي اتقاضاها شهرياً ( قبل المنع) بالكامل، عبر إعداد ورقة اسمها (ورقة الانتاجية) أو استمارة الانتاجيَّة، تتضمن عناوين المواد الصحفيَّة التي نشرتها، وتواريخ النشر، وعدد الجريدة، أما (بعد المنع)، فبدأ الرجل يهيئ ورقة الانتاجيَّة بصورة جديدة، وذلك (بصرف مبلغ كذا للسيد حسن العاني عن انتاجية شهر شباط مثلاً أو آذار.. إلخ ) من دون أن تتضمن الاستمارة أية اشارة إلى أسماء المواد المنشورة، أو تاريخ النشر أو عدد الجريدة، وكان هذا الموقف – لو تم التعرف عيه وما أبسط كشفه والتعرف عليه – سيجعله في موضع المحاسبة الشديدة مع اقسى العقوبات، وقد حاولت أكثر من مرة إقناعه بتجاوز حكاية الانتاجية ومخاطرها عليه وعليّ، وإن وضعي المادي مستور والحمد لله، ولكنه

لم يقتنع.. وبهذه المناسبة وللأمانة التاريخية أذكر باعتزاز كبير الموقف المماثل لمدير تحرير الجريدة، الزميل أكرم علي حسين .

يوم تولى الداوودي رئاسة التحرير كنت اكتب مقالة في الصفحة الاخيرة من الجريدة تحت عنوان (ضربة جزاء)، استمرت قرابة 13 سنة، وكانت السنوات الاخيرة، قد شهدت نقل المقالة من مكانها المعتاد في أعلى الصفحة الأخيرة من جهة اليسار إلى نهاية الصفحة أو نشرها عند المنتصف بصورة أفقية وليست عمودية، وأحياناً لم تكن المقالة تظهر، وأغلب الأحيان تتم الموافقة على أربعة أعشار المقالات، ورفض ستة أعشارها، ولهذا زرت الرجل في مكتبه، وتحدثت معه حول هذه الإشكالية، أجابني وهو في قمة الحرج [ بصراحة أستاذ حسن، هناك ضغط شديد من الوزارة للتخفيف من (قسوة) مقالاتك أو حجبها نهائياً، لأنها تزعجهم وأنا أستحي أن أحجبها ]، 

هذا الإنسان النبيل لم يراوغ ولم يخدعني بكلام ناعم ووعود وردية.. رحم الله الداوودي كم أحببت صدقه وصراحته واحترامه لزملاء المهنة.