الحياة القصيرة السعيدة لإبراهام لنكولن

بانوراما 2023/05/30
...

 لي حبيب

 ترجمة: بهاء سلمان

وفقا لجميع الروايات، كان يوم الجمعة العظيمة، قبل يومين فقط من عيد الفصح في 14 نيسان 1865، هو أسعد يوم في حياة الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن. لقد كانت بالتأكيد من الأسابيع القليلة السعيدة في حياته، وفقا للكاتب "جيمس سوانسن"، مؤلف الكتاب الذي حقق أعلى المبيعات آنذاك، وتحدث عن آخر 12 يوم من حياة الرئيس لنكولن.  وقال سوانسن لجمهور استضافه منتدى لنكولن في العام 2004: "لقد انتصر الرئيس لنكولن في الحرب؛ فقد سقطت ريتشموند في 3 نيسان، واستسلم "الجنرال لي" في 9 نيسان، وألقى لنكولن خطابه الأخير من البيت الأبيض مساء 11 نيسان." وأشارت الصحف المحلية إلى أن الليلة التي سبقت ليلة مقتل لنكولن برصاص قاتله كانت أجمل ليلة في تاريخ واشنطن. حيث احتفلت المدينة بانتهاء الحرب الأكثر دموية والأكثر تكلفة على الاطلاق شهدتها الأراضي الأميركية، فقد أطلقت الألعاب النارية والمشاعل، وغيرها من المواد المتنوعة، لتنير السماء ليلا.

نقل سوانسن عن احدى الصحف قولها "إن قبة مبنى الكابيتول كانت جميلة جدا خلال تلك الليلة، حيث بدت وكأن قمرا ثانيا قد نزل على الأرض كدليل على مباركة الله للاتحاد، ولنعمة النصر."

كان صباح اليوم التالي، يمتاز بجو ربيعي شاعري في يوم 14 نيسان، إلتقى فيه لنكولن بابنه، الذي كان يعمل مع الجنرال "جورج ميد"، ثم إلتقى بمجلس وزرائه.

إنضمّ زائر نادر إلى الاجتماع الأخير الذي عقده لنكولن مع موظفيه هو الجنرال "أوليسيس غرانت".

ناقش المجتمعون شؤون الدولة، وانتهت الأمور بطرح لنكولن للحلم الذي مر به في الليلة الماضية؛ حيث كان فيه على رأس زورق غامض يسير نحو شاطئ بعيد، وكان بمفرده.

أضاف لنكولن أنه كلما قد رأى هذا الحلم سابقا، وأنه رأى ذلك المنام مرات عديدة خلال الحرب، وظهر شيء ذو أهمية حاسمة. 

ثم قال للرجال: "أنا مقتنع بأن شيئاً ذا أهمية كبرى على وشك الحدوث".


جولة رئاسية

عندما انتهى الاجتماع، استقل الرئيس وزوجته، ماري، عربة للاستمتاع بجولة في الهواء الطلق وأخذهما الطريق للحديث فيما بينهما بأمورها الخاصة.

قال سوانسن: "خلال تلك الرحلة، أخبر لنكولن زوجته أنه مدرك جيدا بأن الحزن لم يفارقهما وجعلهما غير سعداء للغاية منذ وفاة ابنهما "ويلي" البالغ من العمر 11 عاما في البيت الأبيض خلال العام 1862". 

كما كان لأعداد قتلى الحرب الأهلية، البالغ أكثر من ستمئة ألف، أثره على لنكولن أيضا.

وعبر سوانسن عن ذلك قائلا: "كان الأمر بمثابة عبء ثقيل عليه، وقد افترق الإثنان خلال الحرب لأسباب عديدة". 

قال لماري: "يجب أن نكون سعداء مرة أخرى." كتبت ماري ملاحظة في وقت لاحق من ذلك اليوم عن روح زوجها المتجددة. 

وذات مرة خاطبته بالقول: "إنك ترعبني لأنني لم أرك بهذه السعادة من قبل منذ الفترة التي سبقت وفاة ابننا مباشرة".

يقول الكاتب: قبل يومين فقط من عيد الفصح، شهد لنكولن قيامة روحه. 

في تلك الليلة، حضر الزوجان مسرحية "ابن عمنا الأميركي" (Our American Cousin) ، وهي مسرحية كوميدية من تأليف الكاتب المسرحي البريطاني "توم تايلور". 

وصل الزوجان متأخرين بحدود نصف ساعة، وتوقّفت المسرحية على الفور. 

قال "مايك روبنسون"، أحد رواد التمثيل في مسرح فورد، لمجلة نيوزويك: "نهضت الفرقة وعزفت أغنية "مرحبا بالرئيس" ( Hail to the Chief)، وانتابت الجمهور حالة من الحماس المجنون، ولعلها كانت أسعد لحظة في حياة لنكولن.

في يوم يمثل بداية جديدة وسعيدة لحياة لنكولن، كان "جون ويلكس بوث" يخطط لجعله آخر الأيام في حياة الرئيس. 

يقول سوانسن: "كان هذا الشاب البالغ من العمر 26 عاما أحد أشهر الممثلين في أميركا، وكان وسيما ورياضيا للغاية. 

كان الرجال والنساء يتوقفون في الشارع لمشاهدته وهو يمر. ولدوافع كثيرة، سياسية وغير سياسية، وبسبب حالة من العبث والكرم والغرور، كان بوث محبا للجنوب وداعما للعبودية، حيث قال ذات مرة: "العبودية هي أفضل شيء يحدث للرجل الأسود على الاطلاق." عندما حل اليوم الذي ألقى فيه لنكولن خطابه الأخير من البيت الأبيض، كان بوث حاضرا، وقد جلس في مكان ليس ببعيد عن الرئيس. 

عندما تحدّث لنكولن إلى الحشد المحبوب حول منح السود حق التصويت، إلتفت بوث إلى أحد المتعاطفين معه والمؤمنين بالكونفدرالية، والذي كان يعرفه وقال: "هذا هو الخطاب الأخير الذي سيلقيه إلى الأبد."


تخطيط مسبق

اتضح للكاتب أن بوث كان قد فكر في قتل لنكولن قبل هذا التاريخ بفترة. 

وفي خطاب التنصيب الثاني للرئيس، جلس على بعد 50 قدما منه. "

وبعدما شرب الخمر إلى حد الثمالة في إحدى الحانات، بعد ذلك الخطاب بفترة قصيرة، ضرب بوث بقبضته على الطاولة وقال لأحد أصدقائه ’يا لها من فرصة ممتازة لقتل الرئيس في يوم التنصيب.. لقد كان قريبا مني مثلما أنت قريب مني الآن تقريبا " بحسب  سوانسن.

ثم جاء الحافز الذي دفع بوث إلى التحرّك، فأثناء زيارة مسرح فورد خلال منتصف النهار لاستلام بريده، أخبرت إحدى النساء الممثل بوث بأن لنكولن كان حاضرا للعرض المسرحي في تلك الليلة. 

يقول سوانسن: "هذا هو الزناد الذي قدح نار الساعة الوهمية للعد التنازلي في ذهن بوث."

ما الذي دفع أحد الممثلين البارزين في عصره ليقوم بفعل مثل هذا الذي فعله بوث؟

أوضح سوانسن: "كان لنكولن قيصرا أميركيا بالنسبة إلى بوث، فقد أراد أن يعاقب لنكولن الطاغية، وكان يأمل في تغيير مسار التاريخ، وبالطبع، كان يريد الشهرة الأبدية لشخصه. 

لقد كان بوث يمتلكها في حياته من خلال فنه، لكنه أراد أن يكتب له الخلود كمتعصّب للجنوب، وبشكل أساسي، كأميركي محب لوطنه." 

أما بقية القصة، التي أطلق عليها "هيرمان ملفيل" اسم "تلك الليلة الدموية الرهيبة"، فقد مثلت جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الأميركية. 

وعلى الرغم من تفاصيل الاغتيال، فإن ما فعله بوث في تلك الليلة هو تقديم لما اسماه سوانسن شكلاً فنيا جديدا، هو: "اغتيال الأداء".

لم يكن بوث مخططا لمهمة انتحارية، فقد وضع خطة للهروب. 

يقول سوانسن ان ما أراده حقا هو أن تتم رؤيته والاحتفاء به ثم يلوذ بالفرار. 

يقول الكاتب: "عندما تسلل بوث إلى مقصورة الرئيس وأطلق النار على رأسه وقفز إلى منصة مسرح فورد، لم يكن يرتدي زيا تمثيليا متنكرا، ولم يكن حالقا لشاربه، بل إنه لم يفعل شيئا لإخفاء وجهه عندما إلتفت إلى الجمهور وواجههم، صارخا بشعار ولاية فرجينيا." 


تحقيق الهدف

كان الشعار هو (Sic semper tyrannis)، وهو عبارة لاتينية تعني "هكذا دائما هو مصير الطغاة"، ثم تبعته آخر الكلمات التي قالها بوث على المسرح الأميركي صارخا: "تم الانتقام للجنوب."

يقول سوانسن: "عندما غادر المسرح، إبتهج  مفتخرا بنفسه، ولم يسمع ذلك سوى قلة من الناس :"لقد فعلت ذلك،" ثم هرب بوث إلى الجهة الخلفية من المسرح، وقفز على حصانه المنتظر، منطلقا وسط عتمة الليل.

أعقب ذلك أكبر عملية مطاردة في التاريخ الأميركي، وتم العثور على بوث بعد 12 يوما خارج بورت رويال بولاية فيرجينيا، محاصرا وسط مخزن لمزرعة التبغ، وقام سلاح الفرسان بإضرام النار في المبنى لإجباره على الخروج. "

عندما وصلت يده إلى بندقيته وتوجه إلى الباب، سحب الرقيب "بوستن كوربيت" مسدسه وأطلق النار مرة واحدة، مصيبا بوث في رقبته وقطع عموده الفقري؛ ليموت في غضون ساعتين، موتا بطيئا بائسا يناسب قاتل غادر،" بحسب وصف روبنسن.

كان القاتل بوث مقتنعا بأنه بطل المأساة التي ألّفها وأخرجها وقام ببطولتها. 

وكانت كلماته الأخيرةهي: "أخبروا أمي أنني مت من أجل بلدي". 

وبالعودة إلى مسرح فورد يوم الجمعة العظيمة، حيث كان الرئيس الأميركي المحبوب يحتضر في مقصورته، يقول روبنسن: "لقد عاينه ثلاثة أطباء، وخلصوا إلى أن الجرح مميت، وأن المسرح لا يعد المكان المناسب لموت رجل كهذا".

"لقد حملوه من مقصورته، ونزلوا به عبر الدرج إلى الشارع، باحثين عن مكان يجعل الرئيس مرتاحا قدر الإمكان ليمضي الساعات القليلة الباقية من حياته."

قام شخص يقيم في "فندق بيترسن"، على الجانب الآخر من شارع المسرح، بتقديم المساعدة بسرعة. 

ثم هرع الأطباء إلى الرئيس لنكولن وأخذوه مباشرة إلى غرفة النوم الخلفية، حيث توفي في صباح اليوم التالي الموافق 15 نيسان 1865. 

يقول روبنسن: "عندما مات لنكولن، بدأت أمطار خفيفة وباردة تهطل على واشنطن. 

كان الأمر كما لو إن السماء تبكي على فقدان رئيسنا الحبيب."

وهكذا انتهت الحياة القصيرة والسعيدة للمحرر العظيم أبراهام لنكولن على يد قاتل موهوم ومضطرب.


مجلة نيوزويك الأميركية