صناعة الأحزان

الصفحة الاخيرة 2023/06/04
...

محمد غازي الأخرس

عجيب أمر اليوتيوب وغريب سحره لاسيما لأمثالي، فصاحبكم شديد البراغماتية معه، ولا يكتفي بمطاردة الغناء فيه، بل يطارد الأحزان أنى وجد لذلك سبيلاً. أقول الأحزان وأنا استمع لإيقاع الدموع المتجسد بهيئة أكف نسوية تضرب على الصدور ألماً لفراق الأحبة. هكذا أفعل بين فترة وأخرى، أدخل للعثور على بغيتي من اللطميات و"النعاوي" و"الكولات" لتوثيقها، فمنذ سنوات، أعمل على كتاب عن هذا الفن الساحر، فكان أن تجمعت لديّ مئات المقطوعات التي تحتاج إلى حفر نقدي وتأملات انثربولوجية، وبلاغية. والغريب أنني كلما شمرت عن ذراعي لتشطيب ما لدي، هاجمني التعطش للمزيد من النواعي واللطميات، لاسيما أن منتجين فنيين من شبان هذه الأيام لا يتوقفون عن تسجيل ما تجود به الكوالات، وإنتاجه وطرحه في قنوات اليوتيوب التي بدأت تستقطب ملايين المشاهدات، وهذا يعني التحصل على إيرادات مالية. وفي المحصلة، تم تسليع هذا الفن فتحول إلى بضاعة لها سوقها وآليات عرضها واستهلاكها. لهذا يجد المرء نفسه يومياً أمام تحديث مستمر في اليوتيوب لمقطوعات تتزاحم. وبمرور السنوات، أصبح لدينا كوالات وناعيات حفرن لهن أسماء مطلوبة لدى محبي هذا النتاج، وعادة ما يقدم المنتجون هذه الوصلات بتوصيفات ذات طابع إشهاري محفز مثل "نعاوي عن الأم تفطر القلب"، أو "لطم معدلات فزاعي بصوت الملاية فلانه الفلاني". أو يصفون تسجيلاً لشاعرة شهيرة بأنه "جديد" قاصدين كونه جديد الظهور. الحال أن مفردة "جديد" هذه مجازية تماماً هنا. ذلك أنه يصعب أن "ترتكب" ناعية جناية التجديد في هذا النوع من الفن، لجهة أنه أقرب إلى الفنون الطقسية المتوارثة منه إلى أي فن آخر، فقاموسه محدود وأنساقه ثابتة تقريباً، تراكيب العبارات تتكرر مع تغيير المفردات والمعاني، وحتى الصور والتشبيهات تبدو وكأنها تتوالد من بعضها البعض. بمعنى أن نتاج "الكوالة" لا يحوز  شرعيته إلا بالحفاظ على الشكل المتوارث، والمفارقة أن معيار نجاح تأليف الجديد إنما يقوم على الالتزام بالشكل القديم، في المعاني والألفاظ والتراكيب. ليس هذا حسب، بل أن صنعة الفن نفسها تبدو شبه سرية، فالناعية ترث أو تتعلم الصنعة من ناعية أكبر، قد تكون جدتها أو أمها، خالتها أو عمتها. ويبدأ المشوار بخروج التلميذة مع العرابة، ومساعدتها بأشياء بسيطة كضبط الإيقاع، أو تحفيز اللاطمات. وفي مرحلة تالية، تعطي الأستاذة لمساعدتها فرصة للتمرين العملي، فتستريح هي تاركة المسرح للتلميذة. وفي المرحلة الأخيرة، تستقل التلميذة عن عرابتها وتنطلق لتصنع لها شخصية خاصة. وإنه لمن الطريف حقاً أن يسمع المرء حواراً  مثل هذا : سمعت، فلانة التي كانت تطلع مع أم عباس، صارت ملاية، وبدت تطلع وحدها. فترد الأخرى: أي چا شلون، أم عباس عمتها وصار سنين تتعلم منها.
نعم، هي صنعة عجيبة، قديمة متجددة، أفادت من وسائل العصر، فغدت  صناعة لها منتجوها ومستهلكوها، فتأمل أدامك الله.