القرن المستتر من تاريخ الصين

بانوراما 2023/06/04
...

 جوناثان جونز
 ترجمة: مي اسماعيل

نهبت القوات البريطانية والفرنسية عام 1860 القصر الصيفي لأباطرة أسرة تشينغ في الصين ودمرته، وحملت معها قطعا أثرية وأجزاء من معالم معمارية وكلبا صغيرا ذا شعر طويل كان يعود للامبراطور. للمفارقة سيئة الذوق كان الكلب يُدعى "لوتي"، (وتعني "الغنيمة المنهوبة". المترجمة)، وقد أُعطي إلى الملكة فيكتوريا ليكون أول كلب من نوع "بكنيز" في بريطانيا.  
عرضت صورة "لوتي" مؤخرا ضمن ما يمكن اعتباره أغرب مجموعة مقتنيات في معرض يقيمه المتحف البريطاني حتى شهر تشرين الأول المقبل.

يصل المعرض بالتاريخ إلى آخر أباطرة الصين، الطفل "أيسين جيورو بوئي"، الذي أطاحت به الثورة عام 1912. شكّل المعرض مدخلا إلى عالم مدهش كان يتمتع به البلاط الامبراطوري الصيني في القرن التاسع عشر، خاصة- الدائرة الداخلية للامبراطور.. ملابس تعد قطعا فنية فريدة، مزركشة بنقوش بالغة الصغر ومزينة بالفراشات والتنانين، منها رداء يعود للإمبراطورة الأرملة "تسيشي-Cixi"، التي حكمت الصين فعليا من عام 1861 إلى عام 1908، وكانت تغير ملابسها الباذخة عدة مرات في اليوم. يصعب أحيانا التمييز بين الواقع وبين ملابس عروض الأوبرا التي كانت تقام في البلاط، إذ كانت ملابس الحياة اليومية مسرفة في التصميم أيضا. أرسل البلاط الصيني عام 1911 زهريتين عملاقتين (يبلغ ارتفاع الواحدة نحو مترين) مزينة بتنانين ذهبية، لتكون هدية تتويج إلى ملك بريطانيا جورج الخامس. ويمكن القول ان حجم الهدية نوع من التوكيد على أن الامبراطورية الصينية كانت لا تزال تُعرّف عن نفسها بأنها.."كل ما تحت السماء".. لكن المعرض يكشف أيضا (بتفاصيل لا ترحم) إلى أي مدى ضلّت رؤية البلاط لنفسه عن الواقع.

المخدرات والاسلحة الحديثة
لعبت بريطانيا دورا معيبا بشكل مذهل في مسيرة الانحدار النهائي للامبراطورية الصينية وانحلالها. تكشف لوحة ليثوغراف حجرية نُشرت عام 1851، (وهو عام المعرض الكبير الذي احتفل بانتصار الرأسمالية الفيكتورية) عن مستودع ضخم تتكدس فيه إلى السقف سلع للتصدير، وعنوانها بكل فخر: "غرفة تجميع بضائع مزدحمة بمصنع الأفيون في باتنا- الهند". كانت شركة الهند الشرقية تُنتج الأفيون في الهند خصيصا لتصديره إلى الصين، وكان منتوج "باتنا" يُعد من الأفضل في السوق. كتب "لين زيو"، المسؤول الصيني الكبير عام 1838 إلى الملكة فيكتوريا، مشتكيا من التأثير المدمر لتجارة المخدرات البريطانية على النخبة الصينية المدمنة، وردت بريطانيا بإرسال الاسطول!
كانت حروب الأفيون الأولى والثانية أولى المواجهات العسكرية المباشرة بين حضارة الصين (المُبجلة عبر الزمن) والغرب الصناعي المُحدَث. في تلك الحرب الثانية جرى نهب القصر الصيفي، وامتلكت بريطانيا هونغ كونغ.. وكانت تلك نتيجة مفروغا منها، فاللوحات الفنية والدروع وأسلحة "حملة الرايات"، وهم نخبة جيش تشينغ الامبراطوري، كلها تشبه فصولا مجيدة من ملحمة فنون الدفاع عن النفس تدور أحداثها في القرن الحادي عشر. لكنه القرن التاسع عشر، والبريطانيون لديهم مدافع حديثة.
بالتأكيد جرى اختراع البارود في الصين منذ قرون خلت، كما كان هناك نوع متحرك من أسلحة البارود. فكيف انقلب تاريخ العالم كليا رأسا على عقب بحيث يمكن للصين أن تتعرض الآن للإذلال والنهب من تجار المخدرات التابعين للملكة فيكتوريا؟ يمكننا رؤية أحد الاسباب في نموذج ملابس مصنوعة من ألياف الرز والنخيل، مع قبعة من البامبو، وهي تمثل ملابس العمال الفقراء في الريف
والمدينة.
يمتدح وصف تلك الملابس كفاءتها للوقاية من مياه الامطار، لكنها تستحضر أطياف ملايين العمال المجهولين الذين عاشوا وجودا بائسا بعيدا عن بلاط الصين المرصع بالجواهر. وفي ذلك الحين كانت تكنولوجيات الاقتصاد العالمي للقرن التاسع عشر قد بدأت بالوصول إلى تلك الملايين. وجرى استخدام الاختراع الغربي الجديد: التصوير الفوتوغرافي، لتخليد وجوه الأسلاف، وفي نموذج مدهش من أواخر القرن التاسع عشر جرى استخدام صورة فوتوغرافية لصناعة نسخة مطرزة واقعية لصورة رجل.

رياح التغيير
لكن واردا آخر (أقدم وصولا) إلى الصين هو الذي أطلق رياح التغيير العاصف في القرن التاسع عشر.. قدمت المسيحية منظورا عالميا منافسا للديانات الطاوية والبوذية، وأدى التغير الحاصل لقيام "هونغ شيوشيان"، (معلم بمدرسة القرية فشل في اجتياز امتحان الخدمة المدنية) بإعلان نفسه"ملِكا سماويا" باسم المسيحية. قاد شيوشيان جيش "مملكة تايبينغ السماوية" إلى الحرب ضد امبراطورية
تشينغ.
ونقلت احدى المطبوعات الدعائية أن الجيش الامبراطوري تمكن أخيرا عام  1864 من هزيمة "نانجينغ" عاصمة متمردي تايبينغ، ونُشِر رسم لزعيمهم وهو يفر هاربا، لكنه كان في الواقع قد مات. جرى استخراج رفات شيوشيان من قبره وأُطلقت إلى الهواء من مدفع.
مات نحو عشرين مليون إنسان في تمرد تايبينغ، مما جعله الحرب الأهلية الأكثر دموية في تاريخ العالم. ورغم ذلك واصل البلاط مسيرته المترنحة.. ولكن، اذا كان الامبراطور يعيش في عالم مغلق، فإن الناس الاعتياديين كانوا يتطلعون إلى الأبعد، حتى نشرت احدى المجلات الصينية رسوما عن افتتاح محطة قطارات ليفربول تحت نهر ميرسي
عام 1886.
يمكن القول أن معرض المتحف البريطاني مصمم ضمن أجواء تجعله كمتاهة غامضة، يكتشف المشاهد فيها دليلا تلو آخر عن تاريخ صادم غالبا.
لكن القيمين عليه ارادوا له خاتمة متفائلة، إذ نرى الشاعرة والناشطة الثورية "كيو جين"، التي أُعدمت عام 1907، واعتبرت من شهداء القرن الجديد.
إذا، قد يغادر المرء المعرض وهو يعتقد ان الصين عاشت بسعادة بعد سقوط سلالة تشينغ عام 1912، ما لم يطّلع على الصحف ووثائق التاريخ. لكن الواقع ان الصين واجهت أهوالا أعظم من تمرد تايبينغ: لقد جاء القرن العشرين بغزو اليابان لمنشوريا، ومسيرة ماو الطويلة والثورة الثقافية، وصولا إلى اقتصاد اليوم الرأسمالي القوي الذي يحكمه حزب شيوعي
سلطوي.
قد يُقدم هذا المعرض المُدهش التاريخ الحديث بنفس غموض واثارة الماضي البعيد، لكنه أكثر اثارة للقلق..  
صحيفة الغارديان البريطانية