نحن والوعد القديم للمياه

بانوراما 2023/06/05
...

 دانيال وايس، إيريك باول، جيسون أوربانوس

 ترجمة: مي اسماعيل

أدرك الانسان منذ بدء التاريخ الاهمية القصوى للمياه في إدامة الحياة وبناء الحضارات، وابدع القدماء في السيطرة على مصدر القوة ذاك، لكونه المورد الأثمن في العالم. تبنى الفيلسوف اليوناني "طاليس المليتي" (المولود خلال القرن السابع قبل الميلاد في مدينة ميليتوس على ساحل الأناضول) المبدأ القائل إن الماء هو بدء أو أصل كل الأشياء. وكان يؤمن أيضا بأن الأرض عبارة عن قرص مسطح يطفو على البحر. وعلى الرغم من أنه جانب الصواب بشوط بعيد من حيث شكل الكوكب، غير إنه لا جدال في أنه كان مُحقا حول أهمية الماء لجميع الكائنات الحية. ومنذ أول حبة قمح احتاجت للماء لتتم زراعتها في الصين (وكان ذلك قبل التاريخ) إلى آبار وصهاريج شعب السواحيلي شرق أفريقيا المنقذة للحياة.
ومن حدائق المغول الفخمة إلى خزان مياه الملك في كمبوديا، كانت الحاجة للتحكم بالمياه وتسخيرها وإدارتها حافزا للعديد من الحلول الهندسية الأكثر ابتكارا، وعروض الثراء الأكثر بذخا وتمثيلا للسلطة التي تصورها وأبدعها أناس من الماضي. 


سادة الصحراء

كانت مدينة البتراء القديمة (الواقعة على الطرف الشمالي الغربي من صحراء شبه الجزيرة العربية) تتلقى أقل من عشرة سنتمترات من الأمطار سنويا، ومع ذلك عاشت المدينة أيام رخائها حينما كانت عاصمة للمملكة النبطية (من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول ميلادي)، وانتعشت من خلال تخزين تلك الأمطار القليلة بعناية وتوجيه المياه القادمة من عدة ينابيع طبيعية عبر التلال المحيطة. وهذا تطلب بناء منظومة من القنوات والخزانات والجسور والعقود وتركيب شبكة من خطوط الأنابيب، كان طولها نحو 48 كيلومترا، وقد وفرت هذه الخطوط للمدينة 35 مليون غالون من الماء سنويا. 

كما ساعدت البنية التحتية الهيدروليكية الواسعة لمدينة البتراء في تسيير سبل المعيشة لعدد السكان الذي بلغ آنذاك نحو ثلاثين ألف  نسمة، فيما أتاحت لهم تشكيل عرض باهظ للاستهلاك الواضح، ترجمته حضارتها، عبر تصميم فني حاز على إبهار المتداولين وكبار الشخصيات ممن زاروا المدينة التي تقع على مفترق طرق لقوافل التجارة الرابطة بين البحر الأبيض المتوسط وصحراء شبه الجزيرة العربية. 

من بين تلك المشاريع كان المشهد الأكثر ابهارا هو حديقة كبيرة وبركة جرى التنقيب عنها منذ العام 1998 من قبل فريق بقيادة عالمة الآثار "لي آن بيدال" من كلية بيرند الأميركية. فقد كان هناك مرتفع وسط المدينة، ساد الاعتقاد سابقا حوله بأنه كان موقعا لسوق، لكن فريق بيدال اكتشف دليلا على وجود بركة منحوتة في الصخر، تبلغ أبعادها نحو (45 مترا x 22 مترا) فيما كان عمقها نحو مترين ونصف. وفي وسطها توجد جزيرة صغيرة أبعادها نحو (10 امتارx  14 مترا)، عليها سرادق مزين بالرخام المستورد والجص المطلي.

وفقا لمنظور فريق العالمة بيدال كانت تلك الجزيرة مكانا مثاليا لإقامة المآدب أو الدخول في محادثات خاصة، قائلة: "كان للسرادق أبواب للدخول من الجهات الأربع (من أضلاعه)، لذا يمكن رؤية الشخص القادم من أي اتجاه. كذلك كان يمكن سماع صوت المياه النازلة إلى البركة من الخزان الأعلى، مما يضيف إلى الجو السائد عناصر حركة تعج بالحياة ويوفر للحوض خصوصية اضافية". 

ويبدو أن بناء الحوض كان قد تم خلال عهد الملك النبطي "أريتاس الرابع" (الذي حكم بين سنوات 9 قبل الميلاد و40 ميلادية)، واستمر استخدام الحوض حتى بعد أن ضم الرومان مدينة البتراء إلى حكمهم في العام 106 ميلادي، لكن الرومان أهملوا إدامتها بعد نحو قرن من الزمن، وبدأت البركة تمتلئ بالطين والانقاض، مثل الفخار المكسور وعظام الحيوانات. 


طعم الجنة

بنى أباطرة المغول، الذين سيطروا على جزء كبير من جنوب آسيا من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، حدائق مائية باذخة، وهي جزء من  منشآت المياه الأكثر روعة وجمالا من تلك الحقبة والتي لا يزال بإمكان الزوار الاستمتاع بها اليوم. 

وعلى سبيل المثال، كانت حدائق القرن السابع عشر التي تحيط  بقصر تاج محل في أكرا نتاج العاملين الفرس والهنود الذين سعوا  جاهدين لإرضاء الأذواق الفاخرة لأباطرة الهند المغول. وهم أسرة منحدرة من سلالة ملكية مسلمة قدمت من أواسط آسيا، يمكن تتبع نسبهم إلى جنكيز خان. 

فقد أدخل المغول جماليات اسلامية ذات تأثيرات فارسية وتقنيات للحدائق إلى شمال الهند، وهي منطقة كانت تمتلك بالفعل تقاليد قديمة منذ آلاف السنين لإنشاء الآبار الضخمة. يقول "جيمس ويسكوت جونيور" عالم جغرافية تصميم الحدائق في معهد ماساتشوستس الأميركي  للتكنولوجيا ان حكام المغول أسسوا في البدء حدائق تغذيها قنوات ضيقة، وهو نهج محافظ ومقتصد في استخدام المياه مستوحى من أصولهم القادمة من صحاري آسيا 

الوسطى. 

تقدم المنمنمات والرسوم المغولية في الكتب صورة عن كيفية تغيُّر الحدائق المائية عبر التاريخ. تُظهِر احدى تلك الصور شخصية "بابور" أول إمبراطور مغولي (حكم خلال سنوات 1526- 1530 م) وهو يُشرِف على انشاء حديقة في كابول (عاصمة أفغانستان اليوم) حيث تتغذى بالمياه من خلال جداول ضيقة وضعت لهذا الغرض بدقة. يُعرف هذا النوع من الحدائق باسم "تشارباغ-charbagh" ويقسم إلى أربعة أرباع تمثل حدائق الجنة الأربع الموصوفة في القرآن. 

وفي لوحة لاحقة يظهر المهراجا "باخات سينغ" (الذي ينتمي إلى العشائر الهندوسية الأميرية المعروفة باسم "راجبوت"، والذي كانت لهم غالبا مصاهرات مع المغول) وهو يحتفل مع حريمه خلال مهرجان "هولي"، وسط مسبح مثمن الأضلاع  داخل حديقة قلعة موغال راجبوت في ناجور بالهند. 

يقول ويسكوت: "كانت حدائق تشارباغ، التي أُقيمت في عدة مناطق، تحتوي على الكثير من استخدامات المياه المنمقة، وتوضح كيف باتت نخبة الحكام المغول اللاحقين أكثر دراية بالمشهد الهندي". 

يُلاحظ ويسكوت أن علم الآثار واللوحات على حد سواء قد لا ينقلان ما يمكن أن يكون سمة مهمة لمثل هذه الحدائق، قائلا: "كانت حاشية البلاط "متنقلة" للغاية، فغالبا ما كان الرجال يسافرون أو يخوضون الحروب، لكن النساء  يبقين على الأرجح في مكانهن. ومن المثير للاهتمام الاعتقاد أن النساء ربما تمتعن بالاهتمام بتلك الحدائق بشكل أساسي، مع أن تجربتهن في 

تلك المساحات أقل عرضة للرسم أو التوثيق". 


مقياس النيل

نهر النيل هو شريان الحياة في مصر القديمة، وكان فيضانه هو الحدث السنوي المحوري في الحضارة المصرية. إذ ترتفع مياه النيل تدريجيا خلال كل عام ما بين شهري أيار وأيلول حتى تغمر الضفاف وما يحيطها من السهول. وعندما تنحسر المياه تترك خلفها طبقات من الرواسب الخصبة الضرورية لنمو المحاصيل لإطعام الشعب. لكن كميات مياه الفيضان كانت تتفاوت من سنة إلى أخرى، وعندما كانت تقل عن المستوى الأمثل للزراعة أو تتجاوزه يتبع ذلك عواقب وخيمة. فالفيضان غير الكافي يعني بأن المياه لن تصل إلى جميع الأراضي الصالحة للزراعة، ليؤدي في النهاية إلى المجاعة والقلاقل الأهلية. ومن ناحية أخرى قد يؤدي الفيضان إلى تدمير البنية التحتية، والقضاء على الماشية وتكاثر الأوبئة والأمراض.

طور المصريون القدماء أداة تُعرف باسم "مقياس النيل- nilometer" لقياس فيضان كل عام والمساعدة على التنبؤ به. يقول "جاي سيلفرشتاين" عالم الآثار بجامعة نوتنغهام ترنت: "تطورت مقاييس النيل كوسيلة مقدسة للرصد والتواصل"، وهي أداة توضع عادة أعلى مسار النيل وأسفله. وعلى الرغم من أن الأدلة الأثرية على أقدم تلك الأدوات نادرة الحصول، فإن النقوش التي تشير إلى مقاييس النيل تعود إلى خمسة آلاف عام. وقد تم العثور على أحدث نماذج المقاييس المكتشفة وسط منطقة دلتا النيل، في مدينة "ثمويس- Thmuis" اليونانية- الرومانية (تل طماي الحديثة)، وقد جرى بناؤها خلال القرن الثالث قبل الميلاد.  كانت مقاييس نهر النيل تُقام بأشكال وطرق متنوعة، وتوضع إلى جانب النهر أو متصلة به عبر القنوات والخزانات. كما إن السمة الرئيسية لمعظم مقاييس النيل (ومنها مقياس ثمويس) هي وجود خزان أو بئر للتجميع تغذيه مياه النيل. ومع تغير مستويات مياه النهر ينعكس ذلك على مستوى ماء المقياس. 

كانت بعض مجمعات المقياس تضم سُلّما بدرجات طويلة يوفر الوصول السهل للأشخاص المكلفين بمتابعة مستوى المياه. وتضمنت مقاييس أخرى عمودا عليه تأشيرات متوالية على نحو متساوٍ تعمل مثل مسطرة عملاقة لتشير إلى ارتفاع النهر. حيث كان الكهنة يراقبون مستوى المياه يوميا خلال موسم الفيضان، للمساعدة  في معرفة توقع تقدم الفيضان، بحسب وصف العالم سيلفرشتاين الذي اختتم كلامه بالقول: "مع اقتراب نهر النيل من مستواه الأمثل كان الكهنة المصريون يراقبون الموقف بعناية، وعندما يصل الماء إلى تلك النقطة تكون هناك احتفالات كبيرة، حيث تتدفق المياه إلى الحقول".


مجلة {آركيولوجي} 

(عن معهد الآثاري الأميركي)