أهالي الجيساري.. والبحث عن مأوى منذ 40 عاماً

بانوراما 2023/06/06
...

 ستيفاني جلينسكي
 ترجمة: ليندا أدور

منذ أن غمرتها المياه بعد بناء سد الموصل العملاق في العام 1985، وأهالي قرية الجيساري، بمحافظة نينوى، شمالي العراق، يتنقلون بين مستوطنات مؤقتة، وها هم اليوم يواجهون خطر الإجلاء مرة أخرى.
قبل 40 عاما، شاهد سكان الجيساري قريتهم وهي تغمر بمياه بحيرة لما أصبح فيما بعد أكبر سد لتوليد الطاقة الكهرومائية في العراق، لكنهم، ولغاية يومنا هذا، لا يزالون يواصلون سعيهم الحثيث والمرهق من أجل الحصول على مستقرّ وموطن لهم.

فعلى مرّ السنين، تعرّض الأهالي هناك لعدة جولات من عمليات التهجير القسري، بضمنها ما خضعوا له على أيدي عصابات داعش الإرهابية، تواجه اليوم أكثر من 600 أسرة كارثة الإخلاء، لكن هذه المرة من قبل السلطات الحكومية هناك.

غرفة لكل أسرة
حفرت مُحياه خطوط عميقة، وظهر التعب جليا في نبرة صوته الخشن، يقول محمود طالب، وهو يجلس بجوار زوجته على الأرض الخرسانية داخل غرفة صغيرة هي بمثابة منزل الأسرة على مدى السنوات الست الماضية: "طرقوا الأبواب، وأبلغونا بأن علينا المغادرة بحلول شهر حزيران، وتحت أي ظرف، لا مكان لدينا للذهاب إليه"، مضيفا وهو يمسك بإشعار الاخلاء، الذي يقول بأنه أُرغم على التوقيع على استلامه، وقد أزف الموعد.
مشيرا إلى أن الكثير من أبناء القرية لم يوقعوا على استلام الإشعار: "القلة منهم قالوا بأنهم يفضلون حمل السلاح على ترك منازلهم".
يشير طالب (68 عاما)، الذي يعيش، مع سكان سابقين من أهالي الجيساري، في مجمع عسكري مهجور يعود للجيش بمنطقة دوميز بمحافظة نينوى، الذي تروم وزارة الدفاع
استعادته.
تم تقسيم المجمع إلى كتل تحيطها جدران من الطوب، وقد خصصت غرفة واحدة لكل أسرة لتسكن وتنام وتطبخ فيها. المجمع، المحاط ببقع صغيرة من الأراضي حولتها أمطار الربيع إلى بساط أخضر، وبالرغم من أنه يبعد كثيرا عن حقول الجيساري وأراضيها الزراعية الشاسعة، إلا أن الأهالي رأوا بأنه يفي بالغرض طالما ليس لديهم بديل
عنه.
كان النزوح الأول لأسرة طالب في العام 1985، في ظل نظام صدام، عندما أفرغت قريتهم الطريق لإنشاء سد الموصل: "كانت البداية مع إكمال بناء السد العام 1985، فمنذ ذلك الحين ونحن نتعرض للتهجير مرة تلو الأخرى،" تقول عائشة حسين، زوجة طالب، (64 عاما) وأم لـ11 ابنا وابنة مضيفة: "لا يمكننا مواصلة العيش على هذا المنوال، كثيرا ما فكرت أن أُغرق نفسي في
المياه التي طمست تراثنا وقريتنا".

ليس من مجيب
 في العام 1985، مُنحت عائلات الجيساري منازل جديدة في بلدة البردية المجاورة، ذات الأغلبية الكردية، لكن هذه الخطوة تسببت بانتزاع الأرض من مالكيها الكرد، ضمن حملة نظام صدام لإبعاد الكرد وتعريب المنطقة. بعد عودة المالكين الأصليين اليها إثر سقوط النظام العام 2003، "طالب أصحاب الأرض الحكومة بإعادتها اليهم"، يقول طالب مضيفا، "الامر الذي اضطرّنا للمغادرة من جديد رغم عدم توفر مكان محدد نذهب اليه. كنا سعداء في البردية، لكنها أرضهم وقد تفهّمنا ذلك".
بعد مغادرتهم بوقت قصير، عثر أهالي الجيساري على المجمع العسكري الخالي: "بعد الاجتياح الأميركي للعراق، عمت الفوضى ولم يكن هناك وجود لحكومة تؤدي عملها كاملا. اتّخذنا المجمّع مستقرا لنا، وطالبنا السلطات، مرارا وتكرارا، ببناء منازل دائمة لنا، لكن ليس من مجيب"، والحديث لطالب. تلت ذلك المزيد من عمليات النزوح، فبعد مهاجمة عصابات داعش للمنطقة العام 2014، وفي العام 2017، عادت الأسر إلى دوميز، ظنّا منهم بأنهم وجدوا أخيرا موطنا دائما لهم، يقول طالب: "في خضم القتال ضد داعش، تعرّض المجمع للنهب وتم تحطيم الأبواب والنوافذ، وأعدنا بنائها
بالكامل."
يقول الدكتور حيدر الموسوي، الذي يعمل مع منظمة نماذج السلام في نينوى، وعَمِل كمفاوض بين الأسر والجهات الحكومية، بأنه على مدى العام ونصف الماضي، كانت هناك محاولات من قبل الجيش لإخراج جميع العائلات من المجمع: "تلك هي المرة الأولى التي بدا فيها الأمر جديا، بقوله: "جل ما أخشاه أن يضطر الأهالي لرفع السلاح بسبب حالة اليأس التي يعيشونها، فالبعض منهم يفكر بالعودة إلى البردية، لكن ذلك قد يقود أيضا إلى حدوث صدامات مع الأسر الكردية هناك"، اذ تعد قرية البردية، التي تقع على مبعدة نصف ساعة بالسيارة عن المجمع، منطقة متنازع عليها. "
نحاول الضغط بإتجاه وقف إجلاء الأسر من دوميز حتى نتمكن من العثور على مانح لبناء منازل لأهالي الجيساري"، مضيفا بأن "المسؤولية تقع على عاتق الحكومة العراقية". في خضم ذلك، يبقى طالب وأسرته بمواجهة كارثة اذ يقول: "منذ ما يقرب من 40 عاما ونحن بحاجة إلى منزل، واليوم نحن، مرة أخرى، بلا
مأوى".
*صحيفة الغارديان البريطانية