التاريخيَّة ليست خـنـادق مــاضـويَّــة

منصة 2023/06/07
...

  أ.د. سيّار الجميل 

أستطيع القول إن العراقيين منذ القدم، وهم يجترون الماضي وحكاياته وقصصه ومآسيه ومضحكاته ومبكياته، فمنهم من يمجّد الماضي ويعده زاهياً زاهراً يحلمُ بعودة وروده وحدائقه الغناء، ومنهم من يبكي ويلطم بشكلٍ مثيرٍ، مستذكراً تراجيديات تاريخيَّة معينة.. بعضهم يصمت وبعضهم ينشرح ولكن الأغلبيَّة تبكي وتحزن تاريخياً. إنهم يلوكون أحداثاً معينة ويمقتون أخرى يمجدون هؤلاء ويمقتون أولئك. ويشاركهم مثل هذا المهرجان بعض الشرائح العربيَّة بشكلٍ أو بآخر.. في بيئات وقسمات هنا أو هناك، لكنهم جميعاً لم يمتلكوا الوعي بالزمن وحركته ومتغيراته وتبدلاته عبر الأحقاب وهم يتربون على مثل تقاليدهم منذ صغرهم وتنغرس عندهم جملة {أفكار} تترسخ يوماً بعد آخر، بحيث لم يعودوا يفصلون الدين عن التاريخ! فتجدهم وقد انعدم وعيهم، وغابت عقولهم، وفقدوا توازنهم، وخرجوا عن نطاق العقل، أو أحاطوا أنفسهم بأسيجة سامقة أو تأقلموا عبر مئات السنين في خنادق ليس باستطاعتهم أبداً الخروج من أسوارها العالية.

التاريخ مصدر إلهام

هذه حقيقة ثابتة عرفتها المجتمعات الإنسانيَّة منذ القدم، فكما أنَّ للإنسان تجاربه وخبراته في الحياة وهي تتوّسع وتتعمّق على امتداد السنين وتزداد قيمة الإنسان كلما امتدَّ به الزمن وكلما حفلت به التجارب، فكذلك المجتمعات أيضاً لها خبراتها وتجاربها التي تعدُّ خزيناً قوياً من أدوات التفكير والحكمة والرؤية لاستحضار الحلول والعلاجات التي تحتاجها في حياتها.

وإذا كان الإنسان – كما يصفه الفيلسوف هيغل – له تجربة منقطعة لأنه صاحب رحلة قصيرة ليأتي غيره من بعده، فإنَّ المجتمع حيٌّ لا يموت هكذا بسرعة وعلى امتداد عصرٍ كاملٍ أو عصورٍ طوال. 

وهذا ترجمة حقيقيَّة للآية الكريمة "وتلك الأيام نداولها بين الناس".

وعليه، فإنَّ لكلّ مجتمع تاريخه الذي يعتز به سواء يحمل إيجابياته وسلبياته، وليس هناك أي أمة من أمم الأرض تطمح للوصول الى غاياتها وأهدافها المرسومة في التقدم والتطور إنْ لم تضع التاريخ ركيزة أساسيَّة في صنع أجيالها المتعاقبة، وسواء كان ذلك التاريخ تاريخها بالذات أم تاريخ العالم كله، فللتاريخ دوره في تكوين أي جيلٍ قوي.


هل من تربية بيداغوجيَّة وعقلانيَّة جديدة؟ 

هكذا يتوجب على الدولة والمجتمع معاً استعادة هذا "الدور" في التربية والبيداغوجيَّة والتكوين العقلي على أسسٍ علميَّة في قراءة تاريخيَّة هادئة ومتوازنة ومتوازية مع العقل، وأنْ تبدأ منذ المدارس الابتدائيَّة ثم المتوسطة والثانويَّة، وفصل الدين عن التاريخ، فالتاريخ ليس مقدساً ولكنْ لا يمكن شتمه أو التنكيل به، فكل ما مضى لا يستقيم مع واقع هذه الأيام أو مع الحاضر، ولكن توضيح الصواب من الخطأ كما يقول العقل، كي يقف النشء الجديد بشكلٍ خاصٍ والجيل الجديد بشكلٍ عام على تجارب الآباء والأجداد في مراحل شتى من الأزمان ورؤية كل حقبة أو مدة زمنيَّة بألوانها وأشكالها ومناخها الذي عاشت في كنفه. 

إنَّ ذلك بكل تأكيد، يولِّد الشعور بحالة التواصل، ويعمل على خلق آصرة حقيقيَّة من سلسلة حياة تاريخيَّة متجدّدة يسمّيها الفيلسوف البريطاني المؤرخ الشهير آرنولد توينبي بـ "مبدأ الابوة والبنوة"، فالأبناء من دون تاريخ سوف لن يعرفوا آباءهم وأجدادهم، كما أنَّ الآباء والأجدا لو استيقظوا وعادوا من جديد، فسوف لن يعرفوا عناقيد ذريتهم.. ولكنهم كانوا قد ماتوا ولم تبق للموتى إلا أعمالهم وآثارهم محفورة في الذاكرة الجمعيَّة، أي أنَّهم قد انقطعوا عبر الأزمنة، هذه "المعادلة" تُخرج أي جيلٍ من الأجيال من الأخيلة التي تعشش في أدمغة أبنائه وبناته.

إنَّ التربية التاريخيَّة بحاجة الى ممارسة القطيعة مع الماضي من أجل الفهم وبعكسه، فسوف لن يدركوا طبيعة جذورهم خصوصاً إذا ما كانت البلاد وجغرافيتها في المجتمع والدولة، تمتلك تواريخَ مثقلة بالأحداث المهمة.. وأنَّ أهميتها تبدو واضحة من خلال استمرارها بأوجه مختلفة تتجدد من زمنٍ الى آخر بحكم استراتيجيَّة المكان أو بحكم طبيعة الثروات والخيرات التي يتميز بها ذلك المكان.


فهم التاريخ وتحولاته

إنَّ استعادة مادة التاريخ وبناء مشروعه على أسسٍ علميَّة أمينة تستمد رؤيتها عقلانياً من جديد مهمة أساسيَّة جداً كي تؤدي دورها في تكوين الأجيال الجديدة، إذ سيغرس نزعات في النفوس والعقول غاية في الأهمية تدفعها لمقارنة الأحوال بين الأمس واليوم، وتتذوق الفروقات بين حقبة وأخرى أو عهدٍ سياسي وآخر أو مناخ جيل مضى وحل بدله جيلٌ آخر.. بل وتوقفها من خلال أوجه التشابه والافتراق على كيفيَّة مواجهة المستقبل من خلال دائرة حلزونيَّة، فكلُ جيلٍ يأتي يتعلم ممن سبقه كل ثلاثين سنة أو كما حددت في "منوال التاريخ". 

وهذا ما تؤكد عليه الدراسات المعاصرة اليوم في جامعات الأمم المتقدمة، بحيث غدت مادة التاريخ من أساسيات التكوين الوطني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي عندما يتربّى الإنسان منذ صغره ليس على بكائيات الماضي وتقديسه أو الاستخفاف والسخرية منه أو الانقلاب المضاد عليه وإدانته، كما نلحظ ذلك اليوم عبر المرئيات والمسموعات وكل وسائل التواصل الحديثة، وقد غدا الكل يتكلم ما شاء له الكلام في التاريخ وهو لم يقرأ لا التفاصيل ولا المناهج ولا اشتراطات القراءة، بل ينسخ ما شاء من هذا وذاك ليعرضها بنفسه بكل قرفٍ وابتذال.. نجد اليوم وقد غدا الجميع من المؤرخين، فكيف سيكون التلقي لدى الجيل الجديد؟

في حين إنَّ مجتمعاتٍ أخرى في العالم تحترم مثل هذا "التخصصّ" كونها توليه عناية فائقة، فالإنسان ينبغي أنْ يتربى على معرفة الحقائق وعلى منطق الأشياء وعلى حب التاريخ وفهمه وعشق الزمن لا بصفة تقديسٍ للماضي والتشرنق فيه بل من أجل إطلالة عليه لمعرفة نقاط الضعف والقوة، ناهيكم عن تكوين ثقافة تاريخيَّة موسوعيَّة منذ الصغر يتقبلها بواسطة الصور والألوان والمشاهدات والرسومات والالبومات والموسوعات لأهم ما تميّزت به الحياة في الماضي واستيعابه منذ الصغر جملة من المعاني والأشياء التي يمكنه من خلالها مواجهة التحديات التي يفرضها عليه المستقبل حتما - كما يقول المؤرخ الفرنسي برنارد بروديل -.


التحولات الصاعقة

إنَّ الأمم الحيَّة لا تشغل بالها ليل نهار بمشكلات الماضي وتناقضاته وصراعاته العقائديَّة والدينيَّة والسياسيَّة، ولكنْ تتعلم من التاريخ مخاطر الحروب ورموز التاريخ ومعاني الحضارات وبايوغرافيات الرواد والنخب، يتعلمون من التاريخ الاجتماعي والاقتصادي ويحققون ما لا يعرفونه في التاريخ الثقافي، يميزون بين الأزمنة، فلا يمكن قياس الكلاسيكيات مع العصور الوسطى أو مع العصر الحديث الذي اختلف اختلافاً جذرياً عن الأزمنة القديمة.

ما زال التفكير في مجتمعاتنا بدائياً، فالناس يعيشون في أزمنة حديثة، ولكنَّ عواطفهم وتفكيرهم يثوى في عصور خلت، إنَّ طبيعة التحولات الجذريَّة التي أصابت العالم كله منذ ثلاثين سنة وما زالت تتفاعل في ظل الانفتاحات الواسعة سواء المعرفيَّة المعلوماتيَّة أو الرقميَّة الديجتاليَّة، أو الوسائط الميديَّة الإعلاميَّة وانتشار الفضائيات ووسائل التواصل السريعة التي تسحب أجيالنا إليها سحباً سحرياً لتجعلهم جزءاً من ثقافة عولميَّة متنوعة ومختلطة.. لن يجابهها الإنسان وليس باستطاعته أداء دوره فيه إنْ لم تكن لديه ثقافة أصيلة ومعرفة متمكنة في مناهج خاصة بتواريخه وعاداته وتقاليده وموروثاته وكل تجاربه التي تمكّنه في حقيقة الأمر من مجابهة ذلك المستقبل وما سيبعثه من التحديات القويَّة والصاعقة على امتداد القرن الواحد والعشرين. 

إنَّه سيغدو مشوهاً بعد ثلاثين سنة أخرى مقبلة لتصادم ما يثوى فيه مجتمعه وما يتلقاه اليوم مما يصدر في العالم.

إنَّ الزمن كلما يتقّدم الى الأمام تزداد أهميته وقيمته ولكنْ في مجتمعاتنا سيغمر في تعقيدات مخيفة، وسيكون مشوهاً في حياة البشريَّة قاطبة وإنَّ الوعي بهذه المسألة من أهم مستلزماتنا في هذا الوجود، إذ ستنسحق ثقافته في محيطه وسيضيع في دوامة العصر الصعب، ولما كان التاريخ هو التعريف بالزمن ومضامينه ومحتوياته وأشكاله وعناصره، فإنَّ أهميته تكاد تكون مركبة وتزداد تراكيبها مع استمرار الزمن وتواصل الأجيال.


توظيف التاريخ لربط المجتمع بمآثر ماضيه

لعلَّ من أبرز الأمور وأكثرها أهمية في حياة هذا العصر وفي مثل هذه الأيام: معرفة استخدام المعلومات التاريخيَّة الأقرب الى الحقائق كجزءٍ من المعرفة الأساسيَّة من أجل تكوين رؤية مستقبليَّة لما ستؤول إليه الأوضاع قبل أنْ تغدو تلك المعرفة وسيلة لمعالجات يحتاجها الواقع، أي واقع مليء بالتحديات وهو يسعى في مجال التنمية ويشارك في أطوار هذا العصر المتنوعة في كل المجالات.

إنَّ المدى الذي تتمتع به المعرفة التاريخيَّة يشّكل بحد ذاته ذاكرة أساسيَّة في حياة كل من الدولة والمجتمع، إذ لا يمكن أنْ يتقّدم أي بلدٍ من بلدان العالم اليوم، أو أي مجتمعٍ من مجتمعاته المعاصرة من دون التوغل في الجذور سواء ما يخص الهوية الوطنيَّة أو الذاكرة الشعبيَّة أو الانتماء لتاريخٍ ناصعٍ يعتمد في بناء قيمته على عنصرين أساسيين:

أولهما: ثقل أحداثه وقيمة شخوصه وريادة أبطاله وقوة آثاره ودور مؤثراته على الإقليم أو المنطقة والعالم.

ثانيهما: اتساع مداه بحيث كلما كان تاريخ البلاد غارقاً في قدمه، وإنَّ أي جيلٍ يكشف عن جذورٍ جديدة للتاريخ في تلك الأرض، فإنَّ اتساع المدى يشكل قيمة حضاريَّة مضافة الى المعرفة الوطنيَّة أولاً والى المعرفة الإنسانيَّة ثانياً.


مسألة التاريخ: الثقافة الموسوعيَّة أو العامة

إنَّ مسألة التاريخ كانت ولم تزل تشغل التفكير الإنساني، وهي تعالج من خلال علماء ومختصين يتنافسون في تحقيق الاهم ولا يمكن لأي مجتمع ان يحترم كل من يتطفّل على هذا الميدان لكي يوّظف الوسائل الحديثة في تشويه التاريخ وغرس أخطاء لا يمكن غفرانها في عقول 

الناس.

إنَّ الطفيليين الذين يشوهون التاريخ بقصدٍ أو بدونه جراء غبائهم أو قلة معرفتهم في تأدية مهمة خطيرة قبل أنْ يتركوا الميدان ملوثاً. 

لقد اقتحموا هذا "الميدان" كي يكسبوا إعلامياً وسياسياً، فضلاً عن تشويههم الحقائق، اقتحموه كي يجعلوا أنفسهم شيئاً يذكر ومثل هذا المونولوج لم نجده في أمم العالم قاطبة، وقد طّور العديد من المدارس والمناهج والدراسات في فلسفتها وتقديم بعض من النظريات حولها. 

وتقوم الأجيال كابراً عن كابر بتطبيق تلك الأفكار والرؤى والنظريات على واقع معّين لتنتشله حتماً.


كيفيَّة توظيف التاريخ والإفادة منه

إنَّ الكيفيَّة التي نستطيع من خلالها أنْ نستكشف مثل هذا العالم الزاخر الذي لا يشعر بقيمته إلا اثنان فقط:

أولهما: صانع الأحداث التاريخيَّة في الحرب والسلم واتخاذ القرارات المصيريَّة وشاغل الناس بقوة حكمه أو فاعليَّة قراره أو حركة فعله ناهيكم عمّا يتمتع به من الكاريزما (= القيادة السحريَّة) المؤثرة التي لم تستطع أنْ تخلق نفسها من فراغ، فمن دون شك إنَّ أي كاريزما في تاريخ أي منظومة تشريعيَّة أو أحزاب سياسيَّة أو نخب اجتماعيَّة وحتى ثقافيَّة لا يمكنها أنْ تصنعَ نفسها إلا من خلال استيعابها للتاريخ ودروسه سواء في حقلٍ معينٍ أو في عدة حقول 

متنوعة.

ثانيهما: كاتب التاريخ (= المؤرخ) الذي إنْ استطاع أنْ ينجح في فهم مغزى ما يقرأ من خلال تحليلاته وتبيان عوامل صنع التاريخ ومسببّاته واستكشاف نتائجه بل واستنباط استنتاجاته. 

هو المؤهل وحده في هذا الميدان إنْ امتلك القدرات والثقافة والعقليَّة الواسعة وبعد النظر.


وأخيراً: ما زبدة الكلام؟

إنَّ المؤرخ هو الذي يقّدر ويثّمن دور هذا العالم الخطير من الماضي وكيفية معايشته من أجل الاستفادة منه الى الدرجة التي تسمح للمجتمع (وحتى الدولة) من درء مخاطر غير مكتشفة للآخرين. 

وأستطيع القول إنَّ المؤسسات قاطبة في أي دولة لا يمكنها تجديد نفسها وتوسيع نطاقها إلا من خلال معرفة المجتمع وتاريخه وميوله ورغباته، ناهيكم عن أنَّ الدولة في تشريعاتها لا يمكنها المضي في مهمتها من دون معرفة تاريخيَّة واسعة.

إنَّ صانع التاريخ لا يمكن المضي في عمله ووظيفته باتخاذ القرارات من دون قراءة ما يكتبه المؤرخون الذين يتفّننون في أدائهم وقوة أعمالهم التي تميزها طبيعة المنهج المتّبع والذي يتطّلب قدراً كبيراً من العلميَّة والمنطق والموضوعيَّة من أجل كتابة تاريخٍ حيادي وأمين بعيد جداً عن المفذلكات والأكاذيب والتزويرات والتدليس وتشويه الأحداث والشخوص.. لأنها كلها تسّبب جملة من المهالك التي لم تقتصر خطورتها على الحكام بل على المحكومين 

أيضاً.