يقظان التقي
بعد انقطاع استمر لثلاث سنوات، عادت الروح إلى "متحف سرسق" في العاصمة اللبنانيَّة بيروت، في مساحة فنيَّة تعرّضت لأضرار كبيرة في انفجار الرابع من آب في مرفأ بيروت، وجرى ترميمها، ليعود المتحف لفتح أبوابه في الاشرفية. المعرض خضع لعمليات ترميم وإعادة تأهيل بتمويل إيطالي وفرنسي ولبناني، ومساعدات قدمتها بعض الجمعيات المعنية بحماية التراث والحفاظ عليه.
وقد شمل الترميم استبدال جميع النوافذ بما في ذلك الزجاج الملوّن، غرفة الموزاييك والارابيسك، الذي يتميز بها متحف سرسق، كما جرى إصلاح جميع الأبواب والمصاعد والأسقف المعلقة، فضلا عن ترميم الزخارف التراثيَّة الخشبيَّة المنحوتة يدويَّاً.
هذا، ويشتهر المتحف بواجهته البيضاء وقناطره ونقوشه الزخرفية فضلا عن نوافذه الملوّنة بالأصفر والبرتقالي، ويحتوي على مجموعة كبيرة من أعمال الفن الحديث والمعاصر.
ومع ترميمه، يستعيد المتحف مجموعته الفنية التي تعرضت للضرر جراء الانفجار، ومن بينها لوحة "مواساة" للفنان بول غيراغوسيان وبورتريه لنيكولا سرسق رسمه الفنان الهولندي الفرنسي كيس فان دونغن العام 1939.
كما يضم المتحف أعمالا لفنانين لبنانيين كبار، ومجموعات كبيرة من أعمال الجيل الأول والثاني، ومن أعمال الرواد. تمتد على مساحة ثمانية آلاف متر مربع، يمتلك نحو 5 آلاف قطعة فنيَّة، بينها 1600 لوحة، ولديه مجموعة لـ 150 فنانا بينهم جورج وداود القرم، شفيق عبود، سلوى روضة شقير، عارق الريس، سعيد عقل، عمر أنسي، بول غيراغوسيان واخرين، من أعمال القرن التاسع عشر والقرن العشرين. بلغت تكاليف إعادة التأهيل نحو مليوني دولار.
يعدّ الصالون الفني العريق من أوائل المتاحف المتخصصة بالفن الحديث في المنطقة العربية. المتحف فتح أبوابه المرة الأولى في العام 1961 لكن تاريخه كان متقطعا بسبب أوضاع لبنان الخاصة، إذ أُقفل مرات عدة خلال الحرب الأهلية (1975 و 1990)، ثم بسبب عمليات توسعة وتجديد وترميم، ومؤخرا بسبب انفجار المرفأ عام 2020.
تحول المتحف مع الراحل غسان تويني (بإدارة الوزير طارق متري حاليا)، رمزا لقدرة مدينة بيروت على أن تستعيد أنفاسها، ما بدد ريح سموم الانفجار والإجرام، الذي دمر نصف المدينة بيروت، تجسيدا لثقافة الحياة في لبنان المؤجل.
يمثل الصرخة من لبنان لكل العالم، بأن الفن والثقافة أقوى من كلِّ شيء. القصر الرائع، يعود تاريخه إلى العام 1912، وبدأ العمل به العام 1961، لا يبعد عن مرفأ بيروت سوى 800 ميتر، مما تسبب بدمار 70 بالمئة من محتوياته وعمارته. مثل المعرض عقدا ثقافيا وفنيا مزدهرا في التسعينات، واكب مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب، واستضاف عشرات الدورات من صالون الخريق، الذي اكتشف مواهب فنية خبيئة، صارت نجوما فنية تشكيلية لبنانية، ذات شهرة عالمية اليوم، بأسماء الشباب، الذي خرج من ركوده العام مرات، واجترح حضوره بفعالية، وفي انتاجات فنية مثلت تيارات واتجاهات فنيّة حديثة، وفي تجريب فني خضع لقواعد ومعايير محكّمة. يشغل الصالون هندسة عرض تجريبية استثنائية، تجمع بين المنهجية الفنية/ الجمالية/ الخيال/ التمرد والحرية، في أعمال ذات معانٍ تطال تشكيل المدينة الطليعيّة، وتشكل فضاء واخر، وقصصا تواصليّة بادراك واعٍ ثقافي، للفنون والتصاوير، والتصورات الحداثية، من منظور نقدي، وفي حالات عرض لمنصات متجاورة عالميا، في عرض من الزمن الاجتماعي المفتوح، على كثير من المضامين والمغامرة في قضايا هي جزء من التحولات السسيولوجية، والايكولوجية، والبيئية والثقافية. في خلاصة الكلام، افتتاح حدث بعد كل مآسي المتحف ولبنان، على ثراء في المحتوى والرؤية والرسالة، كصالون تشكيلي/ تاريخي، نموذجي، وملتقى مديني، واجهة بيروت، لطالما صنع الحدث الثقافي والفني، ضمير ذاكرة بيروت والنقد الفني الحديث، الايقونة الارثذوكسية في مستوياتها الفنية والتأملية والتصويرية، حارسة لروح العاصمة. متحف كان أهدى جمهوره سلسة معارض منها لجبران خليل جبران، وجورج شحادة، ولجيل من الرواد الاوائل، وأضاف اليها معارض الشباب، بتفاعلية اجتماعية وثقافية، وصالونية باذخة، وجاذبة، بحرفية أداء وعرض مؤسساتية استثنائية.