جواد علي كسار
ازدهرت في الذهنية الشعبية فكرة راحت تمجّد الاستبداد والحكم المركزي القاسي الصلب؛ بأنه الحافظ لوحدة المجتمعات في البلدان العربية. زاد من وتيرة هذه الثقافة التي انساقت إليها أدبيات إعلامية وسياسية وأحياناً أيديولوجية؛ الصراعات الأهلية والتناحرات الاجتماعية إبّان العقدين الأخيرين، وقد اصطبغ أغلبها بالدم وأواصر البغض والشحناء وسط أبناء البلد الواحد.
تستند هذه الثقافة إلى تقرير للواقع لا جدال فيه، ومن ثمّ هي ترتكز إلى حجة يسيرة القبول، ومنطقية في ظاهرها. هي تقول إن المجتمع العراقي كان موحّداً في ظلّ حكم صدام رغم قسوته ومركزيته الشديدة الباطشة، وإن «الديموقراطية والاحتلال» هما من فكّكا الوحدة الاجتماعية. وهذا ما تكرّر حدوثه تماماً مع تجارب لاحقة اقترنت بالربيع العربي وتغيير الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن والسودان وحوادث سوريا إبّان العقد الأخير، وحينما عادت مركزية السلطة ويدها الحديدية القابضة، عاد الانسجام إلى المجتمع والعكس صحيح، كما حدث في مصر وتونس نسبياً، على حين لم يزل الصراع الأصلي مفتوحاً في بقية ما ذكرنا من البلدان.
رأيتُ من يذهب بهذه الثقافة إلى مديات أبعد، وهو يفسّر الحرب الأهلية اللبنانية على أساس الفرضية نفسها، وكذلك فعل مع حوادث العنف الاجتماعي أواخر عهد أنور السادات بين المسلمين والأقباط، إبّان ثمانينيات القرن المنصرم، وما شهدته الجزائر من احتراب دموي قاسٍ في ظل الحوادث المتوحشة، خلال ما عُرف بالعشرية السوداء في العقد الأخير من القرن المنصرم.
منطقياً يمكن قلب حجة هؤلاء رأساً على عقب، بالقول أن الصراعات الأهلية والاحتراب الداخلي الذي شهدته هذه البلدان، هو نتيجة استبدادية هذه الأنظمة، وحصيلة اجتماعية لمركزيتها الشديدة الباطشة، وليس العكس.
أما موضوعياً ووظيفياً، فالكشف السياسي والاجتماعي يعيد المشكلة إلى بُنية الأنظمة نفسها، وهي تمارس فرض ألوان قسرية موحّدة على النسيج الاجتماعي المتنوّع بذاته، دينياً ومذهبياً وأثنياً وعشائرياً ومناطقياً، وتالياً مختلفاً ثقافياً. فالوحدات القسرية التي فرضتها هذه الأنظمة بقوّة الدولة المركزية القائمة، أوحت بشعور كاذب من الوحدة والانسجام الزائف، صاحبها استقرار زائف فُرض بكتم الأنفاس، والقتل الممنهج لأيّ صوت يريد أن يعبّر عن إنسانيته، بمنطق التنوّع؛ وهذا ما أسمّيه «صمغ السلطة».
فاقم المشكلة أن هذه الأنظمة راحت توحي أن الاحتراب وأشكال الصراع الاجتماعي، يتمّ بتحريكٍ من الخارج أو بفعل الخارج. ولستُ أقصد أن أنفي التدخلات الخارجية، لكن لو إن هذه الأنظمة عمدت إلى تسويات معقولة، في نطاق المواطنة كفكرة جوهرية للنظام السياسي _ الاجتماعي، أو فكرة المساواة الموروثة عن القيم الإنسانية، أو فكرة العدالة التي تتحدّث عنها ثقافة الأديان السماوية؛ لزال ذلك «الصمغ» الطارئ وترك محله إلى علاقات عضوية مستقرّة، تقوم على معادلة التنوّع وما تمليه من حقوق وواجبات.