المدينة كمختبرٍ حيّ

بانوراما 2023/06/10
...

  أنكيثا كاتوبالي
  ترجمة: مي اسماعيل

المدن لوحات مهيأة للإبداع المعماري ودايناميكية الحياة الحضرية، وفي السنوات الأخيرة، اتخذت المدن دورا اضافيا: أن تكون مختبرات حية لابتكارات العمارة والتصميم الحضري. أصبحت المدن «العالمية» أرضية لتجارب تكنولوجيا العمارة والتطبيقات المستدامة ومبادئ التصميم التي تتمحور حول الانسانية، كي يجري اختبارها وتحسينها. تلك النقلة النوعية لم تغيّر الجوانب الفيزياوية من البيئات الحضرية فحسب، بل أعادت أيضا تعريف العلاقة بين العمارة والمجتمع والمحيط المشيد.

المدن مراكز للإنتاجية والنمو الاقتصادي، وبوجود المواطنين مجتمعين قرب بعضهم، يمكن للحكومات ايصال الخدمات والبُنى التحتية إلى عدد أكبر من الناس. وهذه الفرصة تجلب أيضا مواضيع اقتصادية واجتماعية وبيئية كبيرة، وبزيادة أعداد السكان يزداد الاكتظاظ وتصبح الموارد أكثر شحة، كما يزداد تعقيد التحديات التي تواجهها البيئات الحضرية. واستجابة لذلك تقمّصت المدن دور «المختبرات الحية»، أي- فضاءات يمكن فيها استكشاف عمارة وأفكار تصميم حضري جديدة من الأسس إلى الأعلى، وتقييمها في ظروف العالم الواقعي. حوّلت العديد من مشاريع المدن الذكية حول العالم العواصم إلى محاور للابتكار، حيث تُسخِّر تلك المبادرات أحدث التقنيات وتستفيد من البيانات ومشاركة المواطنين، للمساهمة في تصميم بيئات حضرية صالحة للعيش. تمكنت تلك المشاريع، على مستوى المحلات والتجمعات الصغيرة، من مواجهة تحديات حضرية معقدة، واختبار ابتكارات اجتماعية وتقنية على أرضية تجارب «الحياة الواقعية» في المدينة. وبتبنيها لمبدأ «المختبرات الحية»، أصبحت مدن عديدة مراكز عالمية للتجارب المعمارية، ومن أمثلتها:

أمستردام
في مسعاها نحو عَيشٍ حضري مستدام، برزت أمستردام لتحتل المرتبة الخامسة عشرة في قائمة مدن العالم الأكثر تقدما. وبدمج الحلول المتطوّرة وتعزيز التعاون واعطاء الأولوية لمشاركة المواطنين، قدّمت أمستردام مثالا مُلهِما للمدن الذكية. يُعتبر مشروع المدينة الذكية بأمستردام في طليعة ثورة الطاقة، إذ تُسهّل الشبكات الذكية التوزيع والاستهلاك والإنتاج الفعال للطاقة في المدينة. تعمل تلك الشبكات بمثابة «محطة طاقة افتراضية»، تتيح للمنازل بيع الطاقة الفائضة لديها، المتوّلدة من ألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح ومنتجات الكتلة الحيوية المنزلية، إلى إدارة المدينة لقاء ربحٍ معين. وتعمل العدادات الذكية وأنظمة مراقبة الطاقة في الوقت الفعلي على تمكين المواطنين من مراقبة وإدارة استهلاكهم للطاقة. إضافة لذلك، إلتزم المشروع بتكوين نظام بيئي للاقتصاد الدائري، والانتقال من استخدام المرة الواحدة إلى استخدام الموارد المُستعادة والمتجددة. تعمل المدينة حثيثا لتقليل اعتمادها على المواد الخام الجديدة، ووضع خرائط لتدفقات المواد، لضمان الحفاظ على الموارد القيّمة. كما يهدف المشروع إلى إعادة تصميم سلاسل الإنتاج والمواد لتحقيق تدوير أعلى. تمُّر المنطقة الصناعية السابقة في بويكسلوترهام بمرحلة تحوّل إلى منطقة دائرية تدمج الفضاءات التجارية والسكنية، وهي بمثابة موقع اختبار للإستدامة والتدوير، استكشافا لطرق أكثر ذكاء في استخدام المواد وأنظمة الحلقة المغلقة، وتبني مصادر محلية ومتجددة للطاقة.

سنغافورة
أصبحت سنغافورة رائدة عالميا في الابتكار الحضري والاستدامة، بمقاربات استشرافية وبنى تحتية شاملة والتزام بتمكين التكنولوجيا، لتتحول إلى مختبر حي لحلول المدينة الذكية. يعتبر نظام النقل النشيط أحد أعمدة مشروع مدينة سنغافورة الذكية، إذ طبقت المدينة حلولا ذكية للحركة، من بينها شبكة واسعة من أجهزة الاستشعار، وأنظمة لإدارة حركة المرور في الوقت الفعلي، وخيارات النقل العام المتكاملة. ويمكن للمسافر اليومي الوصول إلى معلومات السفر بالوقت الفعلي ودفع أجور الرحلة بالبطاقات الذكية وتطبيقات الهاتف. قللت تلك المبادرات من الاختناقات المرورية وأوقات التنقل، وخلقت شبكة نقل مستدامة.
يعزز مشروع المدينة الذكية بنجاح الممارسات المستدامة في مجال البيئات والأنظمة الحضرية. نفذت المدينة أنظمة مبتكرة لإدارة التخلص من النفايات، مثل نظام آلي غازي لجمع النفايات، يُقلل إلى الحد الأقصى الحاجة لاستخدام شاحنات جمع النفايات وانبعاثات الكربون. كما تستثمر سنغافورة بكثافة في مجال إدارة المياه والحلول الموفرة للطاقة، مثل شبكات التوزيع الذكية ومولدات الطاقة الشمسية.

برشلونة
في قلب مشروع مدينة برشلونة الذكية، تكمن رؤية لتسخير التكنولوجيا والبيانات، بهدف تحسين نوعية حياة ساكنيها. جرى تشكيل المشروع حول خمسة محاور: مبادرات البيانات المفتوحة، ومبادرات نمو المدينة المستدامة، والابتكار الاجتماعي وتنمية التحالفات بين مراكز البحوث والجامعات وشركاء القطاع العام والخاص وتوفير «الخدمات الذكية». يعيد مشروع مدينة برشلونة الذكية تصوّر الفضاءات الحضرية لتعزيز القدرة على العيش والمشاركة المجتمعية. عبر تنفيذ الساحات العامة والمتنزهات والمناطق الصديقة للمشاة، خلقت المدينة فضاءات حصرية تجمع الناس معا. كما دمجت التقنيات الذكية مع تلك الفضاءات، مثل الاضاءة الذكية وسلال المهملات الذكية ومتحسسات الضوضاء، لتعزيز السلامة والراحة في الفضاءات العامة. أصبحت برشلونة، في مجال الحوكمة القائمة على البيانات، نموذجا لمدن أنحاء العالم. وتبنت مبادرات البيانات المفتوحة، مثل نظام تشغيل المدينة الذي يُسهّل وصول الناس إلى المعلومات. وحفّزت هذه المبادرة تطوير العديد من تطبيقات وخدمات المدن الذكية، التي تتراوح من أدوات التخطيط الحضري إلى منصات معلومات الوقت الفعلي.

مدن محورها المواطن
ما تشترك به مشاريع تلك المدن الذكية هو أنها مقاربات محورها المواطن. وفرت سنغافورة منصة «برنامج زمالة الأمة الذكية» ومنصة «استشعار الأمة الذكية»، لتقدم فرصا للمواطنين للمساهمة باستخدام في مبادرات المدينة الذكية، كما أسست حكومة برشلونة منصات رقمية لتمكين المواطنين من المساهمة في عملية اتّخاذ القرار. جرى تأسيس خطة مدينة برشلونة الرقمية، وهي خارطة طريق استراتيجية للتحول الرقمي بالمدينة، عبر عملية تعاونية شملت المواطنين وأصحاب الأعمال ومالكي المصالح المتنوّعة. أما «مختبر المواطنين الأذكياء» و»مجتمع المدينة الذكية»، فيدعو سكان أمستردام للمساهمة في تقرير مستقبل فضاءهم المُشيّد.
تعزز المدن كمختبرات حية ثقافة الابتكار والتعاون، أما العمارة والتخطيط الحضري فهما، وبعيدا عن كونهما مقتصرين على عالم المهنيين، أدوات لتشكيل الخبرات الجماعية للمواطنين بعمق. وبمشاركة السكان في عملية التصميم، تعزز المدن قوة الأفراد للمساهمة في تطوير محلاتهم السكنية ومجتمعاتهم. ويضمن التصميم التشاركي المرتكز على الإنسان أن تعكس البيئة المبنية احتياجات وتطلعات سكانها المتنوعين.
وإذ تستمر الحواضر العالمية بالنمو وتواجه تحديات معقدة، يصبح دور العمارة والتصميم الحضري أكثر حيوية باستمرار. تقدم هذه التجارب مسارا واعدا إلى الأمام، حيث يمكن اختبار الأفكار الواعدة وتحسينها، ثم دمجها لاحقا ضمن نسيج الحياة الحصرية. ومن خلال تسخير قوة التعاون والمشاركة المجتمعية، يمكن للمدن أن تصبح بيئات نابضة بالحياة وشاملة ومرنة، وتعزز نوعية الحياة للأجيال القادمة.  

مجلة «أرتش دايلي» للعمارة