ميثم الخزرجي
هل العبث ادّعاء بالطمأنينة والخلاص من مأزق السؤال الوجودي، أم أنّه إدراك تام أو نسبي لطبيعة الواقع وما يسفر من قضايا كبرى كانت أو سخيفة كونها تقود الحدث بطروحاته وشروحاته الجدلية لتستهين به، لعله علة نفسية تمضي بصاحبها إلى التمرد على المسؤولية المناطة به إمعاناً لتفنيد همه ونكاية بالمعنى الحقيقي الذي تترتب عليه هذه المسؤولية والشروع بإبادة العقبات التي ترافق يومه في ما لو توقفنا عند ماهية العقبة ومضامينها النسقية لظهرت لنا حفنة من الاستنتاجات، التي تتضح من خلالها البواعث الإشكالية التابعة لهاجس الإنسان ومتبنياته، هل هناك معيارٌ نفسيٌ يوكل للفرد حرية التصرف وإبداء القرارات التي تعنى بمشواره لتحرّكه باتجاهات مختلفة فتزرع الشك في داخله قصداً أو من دون قصد؟، وهل أن مسار الحياة السائر بوجهة درامية يؤسس لهذه المزية كتبرير على عدم القدرة لاستيعاب الأسئلة الكونية المرتبطة بفعالية الإنسان؟
أم أنّه مفصل ذهني يجرّ صاحبه إلى عدمية الوجود تبعاً للرؤية الفلسفية التي تخصه.
واقعاً أن ثمة إحباطاً يستشعره الإنسان تبعاً لحالة اليأس والتذمر التي تتمحور حول الجدوى التي
خلق من أجلها، باحثاً عن معناه في هذه الكون، وحسبي أن هاجس الموت المتمركز في النفس البشرية والذي عرّفه لنا نيتشه، وفقاً لتحليله الذي يخص هذا الجانب مشرّعا بدحض
القيمة الفعلية للإله وإعلان قيمة الإنسان الإله أو الخارق (السوبر مان)، الذي يدير شأنه بنفسه ويبحث عن مسار يكمل به مشواره الحياتي
على الرغم من حتمية المآل، فلو سلّمنا بأن العبثية نزوع بين العدمية من جهة وبين الوجودية من جهة أخرى مستوفين الشروحات التي تعنى بانعدام المعنى الكلي للكون وبين البحث عن هذا المعنى لتتلخص لنا ثلاثة مفاهيم رئيسية يبنى على أساسها هذا السلوك، لعل المفهوم الأول هو الانتحار، وهذا مرفوض من قبل فلاسفة المذهب الوجودي كونه هروب وشرود من الواقع على الرغم من مآسيه الكثيرة والثاني الخضوع إلى معتقد لاهوتي له أبعاده الغيبية التي تؤمل الإنسان بالوعد الحق وأن ليس بمقدوره الانجرار من هاجس النهاية وحتميتها والثالث هو البقاء على قيد اللامبالاة والتسديد برؤيتها منفلةً من زمام الواقع.
نوّه كامو إلى مضمون العبث في كتابة أسطورة سيزيف مشيراً بمسعى الإنسان ونضاله من أجل الحصول على سببٍ لوجوده في هذه الحياة, طارحاً من أن هناك معنى جوهرياً لهذا الوجود غير أننا كبشر لا نستطيع أن نمسك به، في حال لو تجرد الإنسان من هذا الشاغل العدمي وراح يخلق له هدفاً ليستقرَّ عنده مزاولاً حياته بصورتها الصحيحة شريطة أن يكون الهدف الساعي لتحقيقه كافياً لتقبّل هذه الحياة.
أجد أن تمجيد الحياة بعموميتها كذبة عظيمة التصقت بالإنسان ليمارس دوره ماحياً من خلده سمه الفناء، فالحقيقة الكبرى التي تواجهنا هو الموت خاتمة العرض المسرحي، وهذا لا يعني أننا نزاول حياتنا بهذه السوداوية، غير أن إعطاء قيمة فعلية تتمرد على ماهية التسليم بحتميات كهذه (كالموت، الفناء، التعاسة، سؤال الوجود نفسه بجميع أنساقه النفسية، الحروب وما تسببه من تصدع نفسي واجتماعي)، كمحاولة لإيجاد معنى للنفس البشرية تعلل من وجودها وقيمتها
الفعلية.
فلو أشرنا إلى أن رتابة الحياة بكليتها التي تعنى بالفرد من عمله الوظيفي، جلوسه مع العائلة، ذهابه إلى المقهى، بل حتى المسافات التي تصل به إلى مبتغاه هي جزء من الذات البشرية الساذجة التي تأكل وتميت الإرادة مستلبة حريته وقواه أيضاً ليشعر بعدها بالغثيان، ما أردت قوله، هل يقوى الإنسان بمسعاه الفكري على تغيير سلوكه وروتين حياته وما نوع التغيير، الذي يحاول كامو أن يمرره ليكون للإنسان دور فعلي في هذه
الحياة.
وهل أن المسار الديناميكي المختلف له قدره المضيء، ليثير ردة فعل إيجابية ناقمة إزاء الدوران في الحلقة نفسها، وإذا سلمنا بأن هذا الكون الصامت، الذي تملأه الفوضى واللاعقلانية جُبل على سياق معين، كونٌ ليس بمقدوره على الحركة كذلك الحيوان المتناغم مع هذا الكون دونما غاية تحفّزه أو تثيره للسؤال، لعل النظرة المتبعة لإنسان هذا العالم جادة من حيث النزوع، نحو إيجاد سبب لتواجده على سطح هذه المعمورة، ومن هنا أجد أن احتدام وزخم الانكسارات والخيبات التي سورت الأرض ومن عليها كفيلة بأن تعطي فرصة كافية للتأمل والدخول في معمعة السجال للخروج بنتائج تعزز مكانة إنسانها.
بطبيعة الحال ثمة أسئلة تشي إلى زعزعة الفرد وعدم استقراره ذهنياً إزاء نظرته للمستقبل، غير أنّها تشكل وازعاً ومحفزاً مهماً لإدراك معناه، فلو توقفنا عند أهم الأسباب التي دعت الإنسان للحنين إلى الماضي، بما يشوبه هذا الماضي من هزات اجتماعية أو سياسية إلا أن استقرار الروح البشرية –الواعية- تجدها منقادة نحو زمن سابق، لعله يرجع ذلك إلى شرود نفسي وعاطفي أكثر من كونه ذاتاً منصفة في تفسيرها للأشياء، وهذا ضرب من العبث أيضاً ولو أتيحت فرصة تدفع الإنسان إلى الاختيار هل ستكون وجهته نحو مستقبل مشرق أم إلى حقبه فائتة، وهل يتراءى لدى الإنسان الحالي المستقبل مشرقاً فعلاً بعد تداخل التكنالوجي والسياسي، وجعل حالة اللبس مركزية، ليكون منهمكاً في ظل صراع الفرضيات العلمية التي تبدد قواه وتزيل قدرته على التفكير بوجوده.