تأثير الحرب الباردة في السينما

منصة 2023/06/14
...

  عفاف مطر

على مدى ستة عقود مازال فيلم جيمس بوند الأعلى ايرادات سينمائياً على شباك التذاكر، على سبيل المثال منذ عرض الجزء الأخير من هذه السلسلة ( No Time To Die ) في أكتوبر الماضي حقق الفيلم ايرادات بلغت النصف مليار دولار. فما هو سبب نجاح شخصية جيمس بوند لتمتد كل هذه العقود؟ الأسباب كثيرة، لكن قد يكون السبب النفسي سبباً رئيساً لنجاح هذه الشخصية فمن شون كيري مروراً ببيرس بروسنان وروجر مرو وانتهاء بدانيال كريغ حرص منتجو هذه السلسلة على اختيار البطل الذي يجب أن يكون وسيماً مفتول العضلات سريع الحركة بالغ الذكاء.
ولم يغفلوا الجانب العاطفي إذ على مدار الأجزاء الستة كانت هناك الشابة الجميلة التي تنتظره وهذا كله مدروس بشكل دقيق فالجاسوس في حقيقة الأمر يمثل الدولة المنتجة للفيلم وأجهزتها الاستخباراتية فيجب أن يكون كاملا من جميع النواحي. حين تشاهد جيمس بوند لا يمكن أن تغفل عن الرسائل الأمريكية والبريطانية التي يغلفها الفيلم والتي ترسل ما مفاده تفوق العالم الرأس المالي ليس فقط على الدول الضعيفة، بل وحتى على الدول الشيوعية الغنية. الواقع أن سلسلة جيمس بوند دشنت لهذه النوعية من الأفلام ولهذا النوع من الأبطال وكان لهتشكوك الدور الأكبر لتأسيس هذا النوع من السينما عبر أفلام الجاسوسية والبوليسية. في كنف الحرب الباردة نشأت سينما الجواسيس وازدهرت، فكل منتصر في الحرب العالمية الثانية كان يروي بطولاته بصورة حقيقية أحياناً وأحياناً بصورة مبالغ فيها. التوتر والشك والريبة التي هيمنت على واشنطن وموسكو ولندن في تلك الحقبة انعكست على سينما كل بلد من البلدان الثلاثة.
 بعض النقاد يرى أن أفلام الجاسوسية سبقت الحرب الباردة وتعود إلى السينما الصامتة، ويضرب أفلام المخرج فريتز لانج في عشرينيات القرن العشرين مثالاً عليها وبالتالي هي لا تنحصر في فترة الحرب الباردة لكن هذه الحرب أثرت في طرق عرضها بسردية مختلفة. الـ CIA تأسست في أميركا عام 1947 وكانت تعيش كابوس الخوف من المد الشيوعي والاشتراكي وفي عام 1950 تم انشاء كونغرس الحرية الثقافية في أوروبا لمناهضة الفكر الشيوعي والاشتراكي. عادة كانت الـ CIA ومكتب التحقيقات الفيدرالية نشطاء في التعاون مع صناع هذه الأفلام لأجل ترويج صورة معينة عن مكاتبهم وطبيعة عملهم، وتصديرهم كأبطال قوميين يكافحون الجريمة، وهذا يفسر فخر صناع أفلام الجاسوسية بهذا التعاون في فترة الخمسينيات ويعلنون عن هذا التعاون في مقدمة الفيلم.
كان في مكتب الرئيس الأمريكي روزفيلد قسماً خاصاً لمراقبة الأفلام الحربية ومتابعتها ومساعدتها ومدها ببعض المعلومات الحربية والعسكرية.
في 1915 وقبل النازية صدرت رواية بعنوان "تسع وثلاثون خطوة" للكاتب جون بوشان وحوله هتشكوك إلى فيلم عام 1935 ونجح نجاحاً غير متوقع واكتسح السينمات حينذاك وعد من كلاسيكيات السينما العالمية وتربع على رأس قائمتها وفاز بتصويت الجماهير والنقاد أكثر من مرة ويعد من أفضل الانتاجات السينمائية البريطانية والعالمية حتى يومنا هذا.
من وجهة نظر نفسية أفلام الجواسيس تعزز شعور الانتماء لدى المواطنين أو نفوس العملاء المحتملين؛ بالرغم من ذلك لا ينبغي أن ننسى أن العمود الفقري لهذه الأفلام هو الدراما، فعادة في بداية الفيلم نرى البطل يمر بمأزق ويشعر انه يجب أن يتغير ليتجاوز هذا المأزق، وحين يتمكن من تغيير نفسه يتمكن من تغيير الظرف الصعب الذي يمر فيه. نستطيع أن نقول أن هذه الأفلام مبنية على أسس درامية إغريقية مع فارق مدهش أنه في الدراما اليونانية كان الانسان ينهزم أمام القدر بينما في أفلام الجاسوسية الجاسوس هو من ينتصر ودائماً. إذا تتبعنا مسير الدراما عبر التاريخ منذ الاغريق نرى أن البطل في اليونان كان في صراع مع قوى غير مرئية، وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر بدأ الصراع يتحول بين الانسان وأخيه الانسان، ثم بدأت الدراما تتحول إلى الصراع بين الإنسان ونفسه.
وبعد أن كان الخير مطلق يمثله البطل بنسبة مئة بالمئة والاخر شر مطلق بنسبة مئة بالمئة تطورت البشرية لتقبل وتفهم الاخر وأصبحت النسب توزع كأن يكون البطل الذي يمثل الحق هو الخير بنسبة ستين بالمئة والاخر الذي يمثل الباطل لديه شر لكن أيضا لديه خير بنسبة أربعين بالمائة وتختلف هذه النسب باختلاف قصة وثيمة الأفلام فكانت أقرب للواقع من الفترات التي سبقتها. بصورة عامة أفلام الجاسوسية لها هدف رئيس وهو تمرير رسالة اننا الأقوى ونحن من ينتصر أمام الآخر أي العدو وهذا العدو يأخذ مسميات كثيرة كأن يكون النازية أو الشيوعية أو الإرهاب.
المؤسف في الأمر أنه بعدما كانت السينما أداة ثقافية وفنية للتسلية وللمعرفة أصبحت أداة سياسية ذات تأثير مخيف في الجمهور، فعلى سبيل المثال عززت لدى الجمهور الأمريكي مثلاً أنهم المتفوقون على بقية الشعوب ويحق لهم سحق الآخر لو كان الأمر سيضرهم بغض النظر عن الضحايا التي ستقع في سبيل حفظ أمنهم، ولأن أمريكا أدركت منذ البداية مدى تأثير السينما في حربها النفسية منذ الحرب الباردة أصحبت الرقم واحد ليس فقط في القدرات العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية بل وفي السينما أيضاً فلا يمكن لأي سينما شرقية أو غربية أن تقف على خط واحد مع هوليوود.  أخيراً أود أن أطرح سؤالاً إلى أي مدى يمكن أن نصدق أن جيمس بوند شخصية من نسج خيال الروائي أيان فليمنج مئة بالمئة إذا كان هو في الأساس عميل بريطاني سري ورمزه 007؟