المتحف الوطني يستقبل {مسكوكات الصراف} بحفل مهيب

منصة 2023/06/15
...

  رجاء الشجيري

مسكوكات نادرة أمسكت بها يدُ أهلها في مراحل أوشكت على إحالتها إلى الهباء، ثمة خيط رفيعٌ يمتد بأرواح من أورثتهم تربيتهم الأسريَّة الوطنيَّة أنْ تكون المنقذ بوجه العصف الذي هدد الإرث بالضياع، هنا رحلة لكم تسميتها كما يشاء زيت العقل ووهج الضمير. قاعة الصراف الإرث التاريخي التي وثقت دولا وممالك وخلفاء وملوكاً وسلاطين بمختلف العصور والتي أهدى عبد الله الصراف كل محتوياتها للمتحف العراقي، واستأنفت ابنته ثريا إعادتها بعد تحديثها بالتعاون مع هيئة الآثار والتراث وملاك المتحف العراقي افتتحت يوم 10 /6 / 2023 برعاية السيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.

بعد رحلة الصراف الوطنيَّة التاريخيَّة استكملت السيدة ثريا الصراف مسيرته في إعادة هذه القاعة إلى المتحف العراقي.. على مدى عامٍ تقريباً كنَّا معها نتابع ونترقب تفاصيل الافتتاح فكان معها هذا الحوار الذي خصت به جريدة {الصباح}.


{بداية الرحلة}

عبد الله الصراف تولد النجف (1910 - 2000) وهو من أسرة عربيَّة "شكر"، وقد أسَّسَ الكثير من المشاريع في النجف الأشرف وشخصيَّة الحاج كانت تمثل النجف بكل ما فيه من عمقٍ وعلمٍ وأصالة، كان رساماً وأديباً وشاعراً وعضواً في الرابطة الأدبيَّة. جعل من بيته في محلة البراق مكاناً يجتمع فيه الناس كل خميس مع عددٍ من الوجهاء ورجال الدين والأدباء والشعراء.

وقد كان له شغفٌ كبيرٌ في جمع ودراسة المسكوكات الإسلاميَّة القديمة، لذا قرر في 18 آذار 1969 التبرع بمجموعته الثمينة هذه التي كانت مكونة من (1969) قطعة من الذهب والفضة والنحاس إلى المتحف العراقي، وزارة الثقافة آنذاك خصصت قاعة خاصة باسمه في المتحف العراقي سميت (قاعة الصراف للمسكوكات 

الإسلاميَّة).

يقول عبد الصراف: "بعد وفاة والدي عبد الرسول شكر الصراف وجدت في كيس نقوده درهماً مما ضربه المسلمون قديماً، وقد ذهبت به الى أحد عارفي الخطوط القديمة في النجف الأشرف المرحوم الشيخ جابر الكرماني، فأخبرني أنه مما ضربه الأمويون في مدينة واسط.. ومن حينها بعث هذا الدرهم في نفسي حب اقتناء المسكوكات القديمة من الدنانير والدراهم، وهكذا بدأت أجمعها ضمن عددٍ معينٍ مستعيناً على قراءتها بالشيخ المؤرخ محمد السماوي الذي كان حجة في دراسة المخطوطات".

وأضاف "وفي العام 1935 سافرت إلى فلسطين  واشتريت مسكوكات من أسواق القدس ومسكوكات من دمشق، كما اشتريت من أوروبا مجموعة وأعدتها إلى أرض الوطن..  وبذلك أصبحت كميَّة المسكوكات لا يستهان بها ولكن استعصى عليَّ حل طلاسمها فذهبت إلى المتحف العراقي جانب الرصافة في بغداد واستعنت بالخبير بأمر المسكوكات أستاذي السيد ناصر النقشبندي مؤلف كتاب (الدينار الإسلامي) فكان خير من أرشدني إلى كتبٍ عديدة استعنت بها في دراسة النقود الإسلاميَّة في مختلف العصور استغرقت 40 عاماً. 

وهكذا بقي عبد الله الصراف سنة ونصفاً يعملُ في القاعة التي خصصتها وزارة الثقافة لمسكوكاته تثميناً لجهوده الماديَّة والعلميَّة الى أنْ تمَّ افتتاحها في حفلٍ كبيرٍ عام 1969".


{إرث وعهد}

يقول الدكتور محمد باقر الحسيني في مجلة المسكوكات التي أصدرتها مديريَّة الآثار وعددها الخاص عن مسكوكات الصراف: (بتاريخ 18/ 3/ 1979) أهدى المواطن العراقي عبد الله الصراف مجموعته الخاصة من النقود الإسلاميَّة وعددها (1597) قطعة منها (431) نقداً من الذهب و(1091) نقداً من الفضة والباقي من النحاس، وقد وضعت هذه المجموعة من قبل صاحبها في (18) ألبوماً رتبت حسب تسلسلها الزمني لكل دولة أولاً ولكل حاكمٍ من حكام هذه الدول ثانياً، وهي نقود تخص (60) أسرة ودولة حكموا فيها حوالي (450) ما بين خليفة وسلطان ووالٍ، ولم تصلنا من هذه المجموعة نقوداً مكررة إلا ما ندر".


{عميدة العائلة}

تقول السيدة ثريا الصراف: "عندما كنت شابة صغيرة وشاهدت والدي يريد أنْ يتبرع بهذه المسكوكات الثمينة إلى المتحف العراقي سألته مستغربة لماذا تريد إهداءها للمتحف إنها ثمينة؟! فضحك رحمه الله وأخبرني أنَّه مكانها الطبيعي يا ابنتي وستدركين بنفسك ذلك لاحقاً.. إنها للأجيال يا ثريا ولأولادك.. سيبقون يرونها دوماً هناك في المتحف العراقي وليس أي مكانٍ آخر. 

وقد رعاها والدي مثل واحدٍ من أولاده تماماً. وفعلاً بعد أنْ كبرت أدركت ما قاله لي والدي رحمه الله من أنَّ مكانها المناسب هو المتحف العراقي رابع أهم متحف بالعالم، وأصبحت سعيدة جداً بقراره وما أراده".

وتضيف الصراف: "قبل 2003 قام الخيرون في المتحف العراقي بوضع جميع المسكوكات في صناديق وتك إخفاؤها في قبو المتحف وأخبروني أنَّها بخير لذلك حينها اطمأنيت عليها عن أيَّة سرقة أو تخريب أو نهب وهكذا بقوا محافظين عليها والحمد لله".

وتؤكد الصراف "استغرقت عمليَّة التأهيل لهذه القاعة أربع سنوات ما بين ظروفٍ سياسيَّة عصفت بالبلاد وما بين جائحة كورونا وصعوبة التنفيذ وسفري ووضعي الصحي وغيرها الكثير.. لكنني عزمت على استكمال وإعادة ما قدمه والدي لحضارتنا وتاريخنا، فتكفلت أسرة المرحوم بالمصاريف كافة لإعادة هذه القاعة. وقد قدمت هيئة الآثار والتراث وملاكها في المتحف العراقي خبراتهم واستشاراتهم، فضلاً عن تعاونهم والتسهيلات والمتابعة معي وتفانيهم في ذلك إلى لحظة الافتتاح فكل الشكر لهم من أسرة الصراف".

وعند السؤال عن تفاصيل أكثر عن كيف كان العمل في هذه القاعة أجابت أيضاً: "هذه القاعة هي حصيلة جهودٍ عراقيَّة بحتة في إعادة التأهيل، إذ قمنا بتجهيز وسائل إيضاح وطباعتها في مطابع بغداد مع بوسترات وشروحات باللغتين العربيَّة والانكليزيَّة. 

وهي بإنجازٍ خالصٍ من أسرة الصراف ابتداءً من جمع العملات ودراستها والتبرع بها، الى تجهيز كل الأعمال الإنشائيَّة وغيرها.. وأودُّ ذكر أنَّ هكذا إعادة تأهيل في بلدان العالم تحتاج إلى شركات متخصصة تكلفها ملايين الدولارات لتتم إنجازها، لكننا تعاونا جميعاً في المتحف العراقي والجهود المحليَّة لتكون القاعة على ما هي عليه اليوم وبما يليق بهذا المكان التأريخي التوثيقي المهم. كما تذكر الصراف أنَّ من عمل البوسترات في القاعة كانت حفيدتها (ماسة ابو قوره) وذلك لتقريب الصورة للزائر ومتعة المشاهدة وشرح التفاصيل".

كما أشادت بجهود شابٍ مبدعٍ ملتزمٍ مثابرٍ هو (أحمد الجبوري) فكان متعاوناً في كل الأمور اليدويَّة لحاملات المسكوكات والتثبيت".


{كتاب}

* كنا قد سمعنا عن كتاب قيد الإنجاز عن المسكوكات من داخل المتحف هل ما زال قيد الإنجاز أم اكتمل؟

- نعم هناك كتابٌ خاصٌّ بمسكوكات الصراف وهو يوثق كل مسكوكة مع صورة وشرح لها، ما يعدُّ إنجازاً مهماً جداً للدارسين والباحثين وللمتحف أتمنى أنْ يكتمل إنجازه بأقرب وقتٍ من قبل ملاك المتحف العراقي هو و(كتلوك) أيضاً قد وعدت به من المتحف أتمنى إنجازهما قريباً.


{هاشم الخطاط}

لفتت نظري الرخامة التي عليها اسم الصراف استفسرت عنها لتجيب الست ثريا: هي تحفة تاريخيَّة أهداها لنا الخطاط العراقي المبدع (هاشم الخطاط) رحمه الله وله من أسرتنا كل الامتنان والمحبة لعمله النبيل معنا...


من الحجاج إلى بقيَّة الدراهم

* ماذا تمثل لك هذه المسكوكات من بعد الوالد؟

- المسكوكات كنز معرفيٌّ توثيقيٌّ تاريخيٌّ قبل أنْ تكون ماديَّة، وأنا راضية عن إتمامها ويا رب يكون الصراف راضياً عني.

وتكمل قولها: "يكفيني فخراً ذكر بعض نوادر هذه المسكوكات كما جاء في مجلة المسكوكات وعددها الخاص بالصراف إذ كان (درهم الحجاج بن يوسف الثقفي) المضروب على الطراز الساساني سنة 87 ه‍ وقد نقشت عليه عبارات عربيَّة لم يجدوا نظيرها من نقوده وهي (بس الله/ لا اله الا الله/ وحده/ محمد رسول / الله) وقد كانت دراسة هذا الدرهم منشورة في هذا العدد الخاص بقلم السيدة وداد القزاز، وكذلك كان درهم ضربة عضد الدولة أبو شجاع البويهي بالكوفة سنة 364ه‍ . 

وفي المجموعة نقود عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك وغيرهم من خلفاء العصر الأموي كما فيها نقود آل بويه وآل حمدان والأغالبة وبني طولون والاخشيديين والأيوبيين والسلاجقة وغيرهم وحتى النقود العثمانيَّة وغيرها من المسكوكات النادرة.

* ماذا تمثل لك المتاحف؟ وماذا تقولين للأجيال القادمة تجاه إرثهم وتاريخهم في العراق؟

- المتاحف هي هويَّة تاريخ وإرث الشعوب، كان والدي مذ كنا أطفالاً الى أنْ كبرنا وهو يأخذنا بشكلٍ منتظمٍ في سفرات للمتاحف وشرح أهميتها في ذاكرتنا ووجداننا وهكذا ربينا أولادنا أيضاً على ديمومة وأهميَّة هذه 

العادة.

أما رسالتي للأجيال القادمة نحو إرثهم وتاريخهم فهي في الاقتداء في تجربة آل الصراف وحب بلدهم والثقة بعطاء ووجود الكثير من الناس المحبة للبلد والصادقة في تقديم الغالي والنفيس له والأمل باقٍ بتربة هذا الوطن الغالي على كل عراقي غيور.