برلين توظف الكفاءات الافريقيَّة
فون هاينر هوفمان ونانا كوفي اكوا
ترجمة: مي اسماعيل
شعر الكثير من الالمان بالتخوّف من فكرة المهاجرين الاقتصاديين الوافدين من افريقيا، لكن اليوم بدات برلين توجها استباقيا لتوظيفهم، وهذا تغيُّر جذري من الشك إلى الطلب.
تدير الجمعية الالمانية للتعاون الدولي (GIZ) مركزا للهجرة يعمل فيه متطوعون غانيون، اما زوار المركز فلديهم اولوية موحدة: الهجرة من غانا إلى المانيا. يمكن القول ان فرع غانا للمركز الاوروبي للوظائف والهجرة والتنمية هو افضل مكان يمكن فيه تقدير التحول ذي 180 درجة الذي شهدته سياسة الهجرة الالمانية مؤخرا.
المركز موجود منذ عام 2017، وحتى شهر شباط الماضي كانت الرسالة الصادرة عنه: “لماذا لا تُجرّب حظك في غانا؟ الهجرة إلى اوروبا قد تكون محفوفة بالمخاطر”. كما ان العروض المُوجّهة التي يقدمها المركز كانت تهدف لتسهيل عودة الغانيين الموجودين في المانيا بالفعل للعودة إلى وطنهم الام. لكن تلك الرسالة تغيّرت منذ وقت قصير، ولتوضيح المقاربة الجديدة، توجه وزيران من المانيا إلى الدولة غرب افريقية: وزيرة التنمية “سفينيا شولز” ووزير العمل “هوبيرتوس هيل”. زار الوزيران مركز الهجرة، وقال “هيل” ان الوقت قد حان لازالة العقبات التي تواجه عملية اجتذاب العمالة الماهرة، بينما اسهبت الوزيرة “شولز” بالحديث عن “الامكانات الهائلة” للهجرة. قدم الوزيران معا لهجة خطاب جديدة بشكل كبير عن سياسة الهجرة الالمانية، على قدر تعلق الامر بافريقيا على الاقل.
حلم الهجرة إلى المانيا
يعمل “مايكل كواكو يبواه” في مركز الهجرة منذ عام 2017، وجعله تغيّر التوجه الالماني والانفتاح تجاه هجرة العمالة الماهرة يتلقى العديد من الاستفسارات والمكالمات. قضى “يبواه” السنوات الاربع الاخيرة محاولا اقناع زوار مكتبه ان غانا تمتلك الكثير من الامكانيات، وان الدولة بحاجة فعلا لاناس من امثالهم، كما اخبرهم انه يمكن لهم تاسيس شركة، كما وفر لهم معلومات عن المسارات القانونية للوصول إلى اوروبا، لكن ذلك كان امرا “تفاعليا” كما يصفونه هنا، ويمثل ردا على استفسارات محددة. ولم يكن هناك الكثير من باب العروض: اقامة زوجية (ربما)، او دراسة لفصل في جامعة المانية؟ طالما كان المتقدم يمتلك نحو احد عشر الف يورو (12 الف دولار) في حسابه، كما تنص شروط الحكومة الالمانية. وهنا عموما كان الاستفسار يتوقف!
يقول المستشار الوظيفي يبواه: “انا سعيدٌ فعلا بهذه المقاربة الجديدة”، اذ بات من الصعب عليه بصورة متزايدة اعطاء الناس في غانا اي امل، كما يقول، فقد شلّ وباء كورونا الاقتصاد اولا، ثم تصاعدت كلف المعيشة بصورة انفجارية خلال العام الماضي، ووصل التضخّم إلى مستويات مفزعة. انتشرت الاحتجاجات في ارجاء البلد، وفي الوقت نفسه كانت غانا تُنتج اعدادا متزايدة من خريجي الجامعات كل عام، اكثر بكثير من استيعاب سوق العمل، وباتت بطالة الشباب عالية. وكشفت استطلاعات الراي ان غالبية الشباب في غانا يمكنهم تصوّر مغادرة البلد. حتى الان، كانت كندا وبريطانيا والولايات المتحدة هي الدول التي تتصدر قوائم امال الهجرة، وهناك عادة طوابير طويلة من المهاجرين المستقبليين تقف امام سفارات تلك الدول. سهّلت كندا، تحديدا، على الغانيين المتعلّمين الحصول على فيزا الدخول ورخصة العمل، كما تطلب بريطانيا مختصي الرعاية الصحية خاصة لتلافي النقص الحاصل في مستشفياتها. لكن تركيز المانيا كان غالبا، وعلى النقيض، لايقاف تشجيع المهاجرين من القدوم اليها. وكان جمع مصطلحي “الهجرة الاقتصادية” و”افريقيا” يثير فزع الاوساط السياسية الالمانية، ولم يُسلّط الانتباه العام الا قليلا على كفاءات الشباب والشابات جيّدي التعليم من دول مثل غانا ونيجيريا وكينيا وغيرها.
محاولة اقناع بالبقاء
صدر قانون هجرة الكفاءات الالماني عام 2020 لتحسين الحالة السائدة، ولكن واقعيا ما زالت العقبات امام المهاجرين كبيرة، خاصة فيما يتعلق بالاجراءات المعقّدة للاعتراف بالشهادات والدرجات العلمية. ترغب حكومة المستشار الالماني “اولاف شولتز” الحالية بتحسين الموضوع وتسهيل الهجرة القانونية، كما وضعت وزارة التنمية في برلين استراتيجية جديدة حول افريقيا، تُقدّم الهجرة فيها كفرصة وليس كشبح مخيف، وهذا الحال سيتجسّد في غانا.
في الطابق الثاني من مركز الهجرة يوجد مكتب “بنجامين فوستن” مدير المكتب. ورغم عدم السماح له بالحديث عن السياسة، لكنه يذكر الاعداد الكبيرة من الشباب جيّد التعليم في غانا والفرص التي يمثلونها بالنسبة لالمانيا. يملك فوستن خططا طموحة لتاسيس شراكات مع وكلاء التوظيف وضمن عالم الاعمال، وندوات تعليمية حول النهج الجديد الذي تتبعه المانيا للهجرة، قائلا: “يمتلك العديد من الغانيين فرصا جيّدة للحصول على عمل في المانيا، لكن علينا ايضا ان نكون واقعيين، اذ لن نستطيع التركيز حصريا على الكفاءات الماهرة والحاصلين على التدريب الافضل”. واذا لم يكن بمقدور المتقدمين تحقيق النقاط المطلوبة لقبول طلب الفيزا إلى المانيا، فسيستمر المركز ومستشاروه بتقديم النصح لهم عن سوق العمل في غانا.
في منطقة “اشيمان” على بُعد ساعة من العاصمة اكرا، توجد منشاة التدريب على تقنيات الطاقة الشمسية، حيث يتدرب شباب وشابات لصيانة المعدّات، ويتطلّعون لايجاد عمل. ومن بين ثمانية عشر متدربا، يامل خمسة عشر منهم بالعمل في المانيا، بينما لم يحصل سوى واحد فقط على فرصة عمل داخل غانا. انهى “غودسون امامو”، المدرب بمركز الطاقة الشمسية، بالفعل فترة تدريب في المانيا، اذ نظّمت الغرفة التجارية دورة تدريبية له مع عدة شركات للطاقة الشمسية هناك. قضى امامو الشتاء يُركبُّ الالواح الشمسية على سطوح المنازل، مثيرا دهشة العمل الاخرين لحسن تدريبه، وبعد نهاية العمل، عرضت عليه احدى الشركات عملا فوريا.
هجرة الادمغة
يتحدث “كريستوف بوم” رئيس مركز التدريب على الطاقة الشمسية متذمّرا عن سياسة المانيا للهجرة، قائلا: “لم تتجه الانظار اساسا إلى افريقيا، بل كانوا يرون الافارقة فقط بمنظور اللاجئين، وليس العمالة الماهرة”. عمِل “بوم” مدربا لفنيي الطاقة الشمسية في القارة لعدة سنوات، لصالح الوكالة الكاثوليكية، ويمضي قائلا: “يتمثّل حلمي ان يتمكّن اغلب المتدربين من قضاء بضع سنوات في المانيا، حيث يكسبوا نقودا جيدة ويكتسبوا الخبرة، ثم يعودوا إلى وطنهم في وقت ما ويؤسسوا عملا هنا”. يسعى “بوم” لايجاد عمل لاثنين من متخرجي التدريب للوصول إلى المانيا، حيث تلقوا عروضا للعمل هناك. لكن معادلة شهادات تأهيلهم لم تنتهِ سريعا، وهو ما ينتقده “بوم” قائلا: “أنها لكارثة.. فألمانيا بأمس الحاجة إليهم، وهم لا يجدون عملا هنا، ورغم ذلك لم يمضِ الامر قدما.. انه كلام فارغ.” ووفقا لرأي مؤسسة “برتلسمان” الفكرية فان مثل تلك العقبات تعني تدني سمعة التعامل الألماني بين أوساط العمالة الماهرة.
ولكن ماذا عن الدول التي يُدير العمال المهرة ظهورهم لها ويغادرون؟ ينتقد كثيرون هذه الحالة على انها “هجرة الادمغة”، وبأعداد متزايدة. يقول “ديريدين دادزي”، صاحب شركة لتكنولوجيا المعلومات في العاصمة الغانية اكرا : “نحن نفقد شبابنا الجيدين، فبعد أن ندربهم لسنوات تجذبهم الشركات الخارجية”. ويمضي دادزي قائلا، أن ثلثي موظفيه غادروا إلى شركات تكنولوجيا خارجية، في حين تُعتبر غانا معقل تكنولوجيا المعلومات في افريقيا، حيث العديد من الشركات الناشئة التي انضمّت اليها شركات أجنبية هناك. لا تستطيع الشركات المحلية التنافس مع الاجنبية من حيث الرواتب المدفوعة، وتكمن فرصتهم الوحيدة في استقطاب الخريجين الجدد من الجامعات وتدريبهم، والامل ببقائهم اوفياء لوقت من الزمن. يشعر دادزي باليأس من منافسة المكاسب التي تحصل عليها العمالة الماهرة الغانية المهاجرة إلى المانيا واسرهم، نظام صحي فعّال ومدارس جيدة وبنية تحتية متينة، ثم يوجه رجاءً إلى الشركات الاجنبية: اذا كنتم ستستقطبون العمالة الماهرة من غانا، فعليكم أن تُساهموا في تدريب تلك العمالة، على الاقل.
موقع “دير شبيغل” الالماني