الأبجديَّة الثانية لأوغاريت

منصة 2023/06/19
...

  بيتي فرح

    أمسك حجر الصلصال بيديه الصغيرتين، وبالسكين صنع منه سمكة أذهلت والده، ليكبر في كنف البحر ويكون حالة استثنائية بما يصنعه من لوحات لم ترسمها الريشة، بل تتشكل بواسطة حجارة مختلفة الأحجام والألوان، إنه الفنان نزار علي بدر ابن سوريا الذي تخطى اسمه حدودها بسبب فنه المتفرد عالميا.       

في عامه الخامس عشر سار "بدر" لمدة يومين في الريف الساحلي وأقام في خيمته، فأذهله انعكاس نور الشمس على الحجارة التي تموجت ألوانها، فأخذ بجمعها ليبدأ هنا مشوار الابداع باستعمال حجارة أسماها الرجل "الأبجدية الثانية لأوغاريت"، واختار لنفسه لقب "جبل صافون" وهو جبل تاريخي يبعد عن محافظة اللاذقية 60 كم، وتشير التسمية إلى أنه عرش الإله بعل قبيل الديانات التوحيدية.

أثناء الحرب الطاحنة على سوريا، كانت قوافل الشيوخ والنساء والأطفال تمر طوابير أمام منزله تحمل خوفها وأمتعتها هاربة من الموت، وكأنه (السفربرلك) بتاريخ حديث، ليوحي هذا المشهد في مخيلته بفكرة تجسيد هذه الهجرات إلى لوحات حجرية تتحدث عن واقع الحال وتداعياته الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية كرسالة إلى الضمير الأممي ليلتفت إليه الإعلام العربي والغربي. ت

جاوز عدد لوحاته 25 ألف لوحة، تفنن بأسلوبه بوصف العشق، والطبيعة، والمرأة خاصة الأم الذي كان حضورها لافتا في تشكيلاته. 

الرجل تناول أيضا الوطن والمواطن المصاب بداء الحرب، لتكبر حديقة أعماله بلوحات تمثل الخير والشر بشكل إسقاطات كالزهور والطفولة من جهة وبالدماء والتهجير من جهة أخرى, بوجهة نظر الفنان الناقل بأمانة لصور المعاناة بعيدا عن أي هدف مادي يسلب منه إيمانه برسالته، إلا أنه يضطر أحيانا إلى بيع بعض التشكيلات بسبب الظروف القاسية التي يعيشها كسائر أبناء شعبه، ليتجاوز بحسه الوطني حدود سوريا إلى بعض الدول العربية، حيث شكل أسماء معظم البلدان العربية، وعدّ بعضها قاسما مشتركا له في الحرب والظلم والتشرد وحتى في الحضارة كالعراق الذي أحب فيه إرثه الحضاري المماثل للحضارة السورية بالقدم والعراقة وببطولة شعبه أمام الطاغية، وحصوله في ما بعد على حق الحرية والحياة، فشكل بأبجديته اسم العراق وأهداها بحب إلى الشعب العراقي .

 اشترك "جبل صافون" في برنامج "آراب غوت تالينت" عام 2019، حيث شكّلت حجارته صورة الهجرات السورية فلاقت تفاعلا على مستوى كبير في وسائل الإعلام الغربية فتجاوز اسمه خارطة العرب، ليقيم بعدها العديد من المعارض في اليابان وكوريا الجنوبية وأوروبا، وتعطي جامعاتهم "الأبجدية الثانية لأوغاريت" حيّزا من دراساتها كفن جديد استثنائي له غاية ورسالة، كباقي الفنون المألوفة الاخرى. 

ولا بد من الإشارة إلى كتاب "حصى الطرقات" العمل المشترك الذي جمع جبل صافون مع الكاتبة الكندية "مارغريت رورس" وترجم إلى أكثر من 15 لغة في دول عدة، كان أهمها في إيطاليا حيث يعود ريع الكتاب "لدار أوركا" للطباعة والنشر ومنه يوزع الريع بين الفقراء في العالم.

لم يتمكن جبل صافون من السفر خارج بلاده، إلا أنه اعتمد في المعارض العالمية على تقنية عرض الصور المتلاحقة لأعماله بدقة عالية على شاشة عرض خاصة، ويكتفي محليا بمتابعة وتفاعل الناس له عبر صفحته على "فيسبوك" ومشاركاتهم لمنشوراته في بعض المواقع التي تعنى بهذا الفن، أو على صفحاتهم الخاصة مرفقين آراءهم وتسمياتهم حول اللوحة التي قد تصبح في بعض الأحيان محور حوار متذبذب بين المؤيد والرافض لفكرة اللوحة، إلا أن هناك نقطة التقاء وهي إيمانهم بجوهر أبجدية أوغاريت. 

عند اكتمال لوحته يقوم جبل صافون بتصويرها عدة صور ثم يخرّب التشكيل الحجري، حيث تصبح لحظة التخريب مشروع وليد فكرة جديدة.

نزار علي بدر كغيره من المبدعين العرب الذين لقيت اسماؤهم احتراما في المحافل الدولية التي تعي قيمة الفن، الذي يسهم في ارتقاء المجتمعات، وفي بلدانهم يبحثون عن بعض الاحتواء. 

وجبل صافون المتفرد الذي يتمنى لقاء من يفهم عمق هذا الفن ليسلمه أمانة سر أبجدية الحجارة الكامن في سر تثبيت الحجارة على اللوح الحجري وسر قراءة الحجارة التي قذفتها الأمواج. 

هذا الرجل الغني بأحلامه حيث يتمنى أن يتحول كوخه إلى متحف في يوم ما، ولتكتمل صورة التفرد في شخص، وضع جبل صافون في معصميه أساور صنعها من الحجارة الصغيرة تزن ثلاثة كيلوغرامات اعتاد حملها ولا ينزعها مطلقا، وقد ذكر في أحد لقاءاته الصحفية عن سبب تحمل ثقلها، أجاب: 

"حتى لا تسول لي نفسي التصفيق لأي مسؤول فاسد، وفقط أسمح لنفسي بالانحناء احتراما لمن يصنع الخير للوطن والإنسان".