عبد الهادي مهودر
في أيام الاحتفال بعيد الصحافة العراقية، لم أجد في تاريخها اسماً لصحيفة عراقية أقوى وأبلغ من جريدة {كنّاس الشوارع}، التي ارتبطت باسم صاحبها ميخائيل تيسي ( 1895م ــ 1962م ) أبرز رواد صحافة الفكاهة في العراق، الذي يستحق الاستذكار بامتياز في هذه المناسبة.
وإذا تميزت صحف العراق الجادة والساخرة والخاسرة بشيء ما فهو تميّزها بعمرها القصير، حيث لم تستمر {كناس الشوارع} سوى عامٍ واحدٍ فقط بعد صدورها في 1925 ، ومن عددها الأول ، يمكن أن تحكم على أن هذه الجريدة الساخرة لا يمكن أن تعيش طويلاً ، فصحافة العراق ولدت كصحافة سلطة، لكن الصحفيين العراقيين استطاعوا في مراحل سياسية لاحقة، تحويلها إلى صحف معارضة وناقدة يحسب لها حساب، أما مشروع إصدار صحيفة ساخرة، فإنه كان ولا يزال يراود جميع الصحفيين العراقيين، الذين يمتلكون روح النقد والسخرية اللاذعة والقدرة على تطويع الكلمات، لكنه مشروع صحفي لا يبقي لصاحبه صاحباً ولا داعماً ولاسلطاناً نصيرا، يقبل أن تسخر منه في ظل حكمه وتضحّك عليه أبناء شعبه؟ وأحلام المنام جريمة سياسية، فكيف بمن يصدر صحيفة ساخرة تمسح به الأرض؟!
ولذلك لم يستمر ميخائيل تيسي، ولا أي تيسي بعده في هذا المجال الخطير الذي يجلب وجع الرأس وخواء الجيوب والنهايات الحزبنة، والجريدة الساخرة في العراق مشروع خاسر، ومن تسوّل له نفسه الإصرار على إصدار صحيفة ساخرة والاستمرار بها قد لا يجد من يدفنه في مقابرنا العامرة غير دائرة البلدية، مشكورةً، وصاحبنا ميخائيل تيسي كان كاتباً إقتحامياً، منذ إعلانه عن خطته وهدفه بمقاله الافتتاحي في العدد الأول لكناس الشوارع الصادر في الأول من شهر نيسان،( خطتي معلومة واضحة كالشمس في خامسة الليل، أحمل مكنستي وأتجول في الطرق والأزقة، فحيثما رأيت أحداً يأتي أمراً مخالفاً للذوق والشم والنظام والقانون والكمنجة ضربته بمكنسة كافرة على رأسه، فإن انكسرت المكنسة راحت من كيسي، وإن انكسر رأسه راح من كيسه)، وهذا الرجل الذي عرف بخفة دمه وثقافته الواسعة، اعتبر المكنسة سلاحاً رمزياً في المعركة الصحفية ولم يضع أمام عينيه مخاطر المجازفة بإصدار صحيفة ساخرة ممتعة للقراء، حتى جاء اليوم الذي تعرض فيه لمحاولة اغتيال حين هاجمه شخص ملثم وأصابه بعدة إطلاقات نارية بعد دخوله لصيدلية بمنطقة (عگد النصارى) وسط بغداد، ولاذ الجاني بالفرار، لكن السلطات تعهّدت بالقبض عليه وتقديمه إلى العدالة بأسرع وقت ممكن، لينال جزاءه العادل ولم يزل البحث جاريا عنه منذ مئة سنة تقريباً، لكنه صاحبنا نجا من الموت وأغلق صحيفته وبقي ذكرها، وأصدر بعدها صحفاً أقل قوة وسخرية، وفي عيد الصحافة الـ ( 154) نستغل هذه المناسبة العزيزة، لنجدد المطالبة بالكشف عن نتائج اللجنة التحقيقية وهوية المجرم، الذي اعتدى على الزميل ميخائيل.
وكل عام وانتم بخير.