التطواف مع مؤيد الراوي في ممالكه الكركوكليَّة

منصة 2023/06/22
...

  فاروق مصطفى

ما زال البيت الذي سكنه مؤيد الراوي في منطقة الماس في مدينة كركوك قائما، وتظلله شجرة كالبتوس عالية، وربما الشجرة تنتظر رجوعه، وكأن غيابه طال فهي تريد عودته مبكرا هذا البيت في منطقة الماس بناه والده شكري الراوي، الذي كان يعمل في شركة نفط العراق. اتخيل الان (مؤيد)، وهو يقطع الطريق من مسكنه هذا متوجها الى مقهى المجيدية، الذي كان يفضل الجلوس فيه، وتأمل طيور السنونو، التي أقامت أعشاشها في سقائف المقهى. كنت دائما أذهب إليه برفقة صديقيّ: جان دمو وصلاح فائق، وكان مرات يأتينا سركون بولص منحدرا من منطقة (تبة) التي يسكنها، يأتي على ظهر دراجته الهوائية، ويركنها امام المقهى، ثم ينضم إلينا ونبدأ بعرض محاولاتنا الشعرية على مؤيد، نقرؤها عليه، يصغي إلينا باهتمام ونتلقى تقويماته وملاحظاته و ناخذها بنظر الاعتبار، لأنه يمتلك ثقافة أدبية وفنية عاليتين، ويكبرنا في العمر سنين عدة. في هذه الفترة التي اتحدث عنها وأعني ستينات القرن المرتحل، كان مؤيد مفصولا من وظيفته التعليمية بعد انقلاب شباط عام 1963 وسجن سنتين، فهو متفرغ للقراءة والكتابة والرسم، ولزاما عليَّ أن أشير إلى أنه، بالاضافة إلى كتابته الشعر يرسم ويخط وينقد وينظر، وهو دائما كان يفاجئنا بمحاولاته الرائدة في عالم التجريب الشعري، كانت الحداثة شاغلته الاولى، همّه الأول أن يحرث أرضا بكرا وينبت من الأزهار ما لم تألفها اية حديقة أخرى. ترك مؤيد كركوك إلى بغداد جذبته أضواؤها وأغرته محافلها الادبية والفنية والعاصمة بغداد في العقد الستيني مقصد عشرات الادباء و الفنانين يبحثون فيها عن رفقة ادبية او تعاطي مغامرة او التعرف على مسارحها وسينماتها، إلا أنني لا أريد الحديث عن مؤيد ببغداد، ولا عن سيرته ببيروت ثم بعد ذلك في برلين، ساطوف معه في ممالكه الكركوكلية وأنا أحاول أن أستدرجه إلى هذه الربوع التي أحبّها، وكان حلمه أن يعود إليها من جديد.
في مطولة الشاعر التي تحمل عنوان (جليل القيسي، حارس المدينة)، هذه القصيدة التي ظهرت على صفحات جريدة الصباح الجديد العدد 441، حيث مهد لها الدكتور مالك المطلبي "أن اسم مؤيد الراوي تاريخ طويل من مقارعة الظلم والاستبداد، بحثا عن النور الانساني خارج مسميات الانساب الدموية، تاريخ طويل من الإبداع المترامي الأطراف عبر شبكة الفنون كلها"، وقد ثبّت الراوي القصيدة في ما بعد في مجموعته المعنونة (ممالك) الصادرة عن دار الجمل 2010 في صفحة 120 وقد كرسها إلى صديقه القاص والمسرحي (جليل القيسي)، الذي آثر البقاء في كركوك، بينما صحبه كلهم خرجوا إلى بلاد الله الواسعة، وكان كلما غادر واحد منهم العراق اثقل الحزن روحه ولسان حاله يقول ما هذه إلا أوروبا العجوز التي تسحب الأصدقاء واحدا بعد آخر، إلى ان جاء يوم اكتشف نفسه متروكا، وحيدا يحرس قلعة كركوك ويرتاض على نهرها المهجور:
يقول مؤيد:
"رَأيت ما لم نرَ/ في محجريك عينان من عقيق / ابصرتنا نرحل بريح خفيفة تضرب قلوعنا / آملين الدهشة، نحمل جمر ما سيأتي".
يسرد مؤيد تاريخ المدينة المدحرجة من القلعة، التاريخ المخضب بخضاب نهرها الغريني، الذي يدمن الجريان شتاءً، ويسكت عن تصهاله المائي صيفاً ويتألف النص من تسعة مقاطع وغطى من الديوان أربع عشرة صفحة وجمع بين مبدعين من أقطاب خلية كركوك الأدبية، مؤيد الراوي بقامته الشعرية وجليل القيسي بقامته القصصية والمسرحية المتجددة وينفتح على برارٍ شاسعات تعدو خلف دلالاته وتحتطب معانيه المحلقة. ويكرس مؤيد مطولة أخرى من مطولات (ممالك) إلى جان دمو 1942 / 2003 جوّاب الشعر الابدي وجوال الأرصفة التعبى الهائم تحت امطار الشتاء، والذي أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة في مدينة (سيدني) البعيدة، جان المستوطن خرائط صعلكاته المتبرقع خلف رذاذات انسطاله وانتشائه. يقول الشاعر مخاطبا جان :
 "بينما تنصت لنداء غامض يحمله طائر نحيل / سرعان ما يفقد جناحيه الهواء / فتوشك أنت على البكاء" .
ويختم نصه الجميل بهذا الخطاب الدافئ الموجه إلى جان:
"لكننا عرفناك كما نحن / آشوريا اطفأ جهاراً جمرة الماضي / فلم يعد يدفئه الرماد ".
كم يفرحني أن أغري (مؤيدا) بكمائن الشوق الى كركوك (المكان الاول) وأقول له إن مقهاك الحميم أزيلت بنايته القديمة ونهضت مكانها بناية جديدة وهي الأخرى في طريقها إلى الهدم، سوف تتألم كثيرا، لأنك سوف تفتقد طيور السنونو كنت ترنو اليها، مستعذبا وصوصاتها لكنني متأكد بأنك ستستعيدها وتمنحها مملكة من ممالكك الكركوكليَّة فأنت صاحبها وجوابها الأمين وسوف نمر إلى مشارف (عرفة)، ولكنك تفتقد قطار العمال الآخذ بهم الى شركة النفط، القطار هو الآخر شاخ وأحيل الى المعاش، صديقك جليل القيسي، الذي دعوته حارسا لقلعة كركوك خرج يرتاض على ضفاف نهر (الخاصة)، ينتظرك مع أصدقائه الهابطين من ممالك العراق القديمة، ولا أدري هل تتلقى إشارات من مملكة انعكاساته الضوئية.
ولمؤيد نص سردي يحمل عنوان (زيارة لينين) يبحر فيه في المتغيرات، التي حدثت في المانيا بعد انهيار جدار برلين عند ذاك أزيل تمثال لينين المنحوت من الغرانيت البني واستبدل اسم الساحة إلى ميدان الامم المتحدة، وتم توحيد شطري برلين، فهو يسرد خواطره ورؤاه، ويتعرض للمتغيرات التي طرأت، وتتوهج مخيلة (الراوي)، تبدع في اقامة إبهاء ماتعة من السرد البهي، الذي تغذيه لغته المشرقة وانتقاله بين برلين ومدينته الاولى كركوك. يقول في آخر النص بعد ان تحاور مطولا مع لينين " وهكذا مشاركا مشروعه في الرحيل الى بلاده البعيدة وبنوع من دماثة الخلق قلت له: حسنا أنت تريد الذهاب إلى بلادك سأذهب أنا أيضا يوما ما إلى مدينتي كركوك"، لم يختلف مؤيد عن بقية الصحب عندما غادروا مدينتهم كركوك حملوها معهم في حقائبهم وأناموها في دفاتر أحلامهم، وشاعرنا هو الآخر، فهرس المدينة بقلعتها ونهرها وجسورها وأسواقها وخاناتها وغدت ينبوعا ثراً يمتح منه صوره الشعرية وذاكرته التي تقيته ألوانها وأفراحها وأحزانها، فهو في آخر مجموعة صدرت له بعنوان (سرد المفرد)، يكرس فيها النص الاخير لمكانه الاول ويعنونه بـ (كركوك)، والنص بمثابة أحلام من الاتواق المتلهفة للربوع، التي ظل يحن إليها وتداعب صورها عينيه، وكأن لقاءه بها غدا حسرة الأغنية، التي لم تتم كما في قول الشاعر التركي ناظم حكمت. يقول مؤيد:
"لأنها بعيدة، ومحفوفة بالمخاطر /ساذهب اليها بسفينة تحرسها الغواصات /سارسو على قلعتها المخربة/ لست نوحا لاطلق الحمام وانتظر بشارة الحياة/ سأستقل طائرة أعبر أجواءها / ومن قمرة الربان أرقب ما تهدم فيها / نهرها جف / وسواقيها طمرت".
مؤيد الراوي عاش ستة وسبعين عاما وظل مخلصا محبا للحياة وفيا وعاشقا للشعر ومكرسا عمره كله له، وكأنه أفناه في حرائقه، ووضع بصمته عليه، ثم اهداه لكل ممالكه الكركوكلية، التي أقامها وأزهر فيها حب سيدوم، ويونع ازهراره على مر الأيام.