تقلّص أعداد السكان في اليابان وتحدياته المستقبليَّة

بانوراما 2023/06/22
...

 جون فنغ
 ترجمة: بهاء سلمان  


دقت أجراس الإنذار المألوفة في اليابان شهر نيسان الماضي، حيث اجتمعت أرقام السكان في نهاية العام والتوقعات الجديدة لرسم مستقبل غير مؤكد لثاني أكبر اقتصاد في القارة الآسيوية.
وبلغ إجمالي عدد سكان اليابان ما يقارب من 125 مليون فرد مع انتهاء العام الماضي عند شهر تشرين الأول، وهو ما يمثل وفاة أكثر من نصف مليون شخص عن وفيات عام 2021، ليكون هذا الانخفاض للسنة الثانية عشرة على التوالي، وفقا لتقرير صادر عن مكتب الإحصاء قبل عدة أسابيع. وقال المكتب إن المواطنين في سن العمل، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و64 عاما، قد انخفض إلى 74 مليون شخص تقريبا، وهي أدنى نسبة مئوية للسكان منذ العام 1945، وارتفع عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما إلى 36 مليون تقريبا، وهي أعلى نسبة منذ بدء التسجيل سنة 1920.
ظهرت البيانات المقلقة، التي يجري مراقبتها بالفعل منذ سنوات، في نهاية المعجزة الاقتصادية اليابانية، التي انتهت فجأة في أوائل التسعينيات. وتشكل معدلات المواليد المنخفضة وارتفاع متوسط العمر المتوقع معا تحديا ديموغرافيا غير مسبوق لصانعي السياسة في طوكيو، الذين يجري تدقيق حلولهم أيضا في العواصم المجاورة. أثّرت سرعة انخفاض عدد السكان في اليابان على جميع المحافظات خلال السنة الماضية، باستثناء طوكيو، وتجاوزت التوقعات الرسمية. وبحلول العام 2022، هبط عدد المواليد الجدد إلى أقل من 800 ألف طفل لأول مرة منذ بدء الاستطلاعات سنة 1899، مع توقعات حكومية سابقة لأقل من 815 ألف ولادة عند حلول العام 2027.

أرقام مخيفة
وأشار المعهد الوطني لأبحاث السكان والضمان الاجتماعي التابع لوزارة الصحة اليابانية في تقييمه الذي يصدره مرتين كل عقد من الزمن، إلى أنه إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فقد تنخفض المواليد السنوية إلى أقل من نصف مليون نسمة لسنة 2059.
ويعد معدل الخصوبة في اليابان، البالغ نحو 1,3، من بين أدنى المعدلات في نادي الدول الغنية التي تؤلف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ وكانت ايطاليا بنسبة 1,24 وكوريا الجنوبية بنسبة 0,78 هما الأقل. وانخفض كل شيء أقل بكثير من معيار منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي البالغ 2,1 تقريبا للحفاظ على استقرار السكان.
وقال المعهد الياباني لأبحاث السكان والضمان الاجتماعي إن المسنين سجلوا رقما قياسيا بلغ 29 بالمئة، ويمكن أن يصلوا إلى 38 بالمئة خلال نصف القرن المقبل. ووفقا لتوقّعات المعهد، يمكن أن يرتفع متوسط العمر المتوقع في اليابان إلى 92 عاما تقريبا للنساء و86 عاما للرجال خلال الفترة نفسها. وقد حددت الأمم المتحدة نسبة 20 بالمئة من السكان لمعدل عمر ما فوق 65 سنة كعمر يضيف عبء الضمان الاجتماعي لسن العمل الذي يفترض أن يشكل نسبة 60 بالمئة من عموم السكان لأي بلد.
وذكر التقرير أن عدد سكان اليابان، الذي بلغ ذروته سنة 2008 عند 128 مليون نسمة، قد ينخفض إلى 87 مليون بحلول العام 2070، بحسب التقرير. وعدّلت التقديرات السابقة لعام 2017 التي أشارت إلى انخفاض عدد السكان إلى أقل من مئة مليون، من 2053 إلى 2056، واضعا في الحسبان الزيادة المتوقعة في حصة الرعايا الأجانب في البلاد، من 2,2 بالمئة سنة 2021 إلى 11 بالمئة في غضون 50 عاما.

الوقت وليس المال
صارت مواقف الشباب الياباني تمثل مؤشرات مهمة للقضايا الديموغرافية التي ظهرت منذ ذلك الحين في الاقتصاديات المتقدمة الأخرى ضمن المنطقة. ووجدت استطلاعات الرأي العام المتداولة أن المزيد من الذين استطلعت آراؤهم يؤخرون الزواج أو إنجاب الأطفال، أحيانا إلى أجل غير مسمى، بسبب تقلّب سوق العمل وارتفاع تكاليف المعيشة.
تواجه النساء اليابانيات، لاسيّما اللواتي يواصلن تعليّمهن العالي، الثقافات المتنافرة والعادات العائلية التي لا تزال مرتبطة بأدوار الجنسين التقليدية. هذه التوترات هي من بين الأسباب التي تجعل بعض الآباء المحتملين لا يريدون تربية الأطفال وسط البيئة الحالية، على الرغم من الرغبة في ذلك.
وللمرة الأولى في تاريخ اليابان بعد الحرب، سجلت غالبية النساء بين أعمار 18 و34 عاما رغبتهن في الزواج، بخطط انجاب أقل من طفلين، وفقا لنتائج استطلاع أجراه المعهد الوطني لأبحاث السكان والضمان الاجتماعي سنة 2021، وصدر الخريف الماضي. في نفس الفئة العمرية، أكّد عدد قياسي من الرجال والنساء، 17 و15 بالمئة على التوالي، عدم نيّتهم الزواج على الإطلاق.
استشهد "ماسانوبو أوغورا"، وزير الأطفال الياباني، بالبيانات الصادرة أواخر آذار الماضي، عندما كشف النقاب عن مقترحات تمثل "فرصة أخيرة" لعكس التراجع المستمر منذ عقود. كانت الخطط، التي ستشرف عليها "وكالة الأطفال والعائلات" الحديثة التكوين، بمثابة توسيع للسياسات السابقة التي فشلت إلى حد كبير في تحقيق أهداف بمستويات ملموسة.

محاولات حكومية
ولأجل تخفيف العبء المالي على تربية الأطفال، ستقدّم الحكومة إعانات لتغطية مصاريف الولادة والتعليم، مع توقّع أن تتلقى العائلات عشرات الآلاف من الدولارات خلال مرحلة الطفولة المبكرة للمولود الجديد ومراهقته. وبالنسبة للآباء، فإن إدخال تدابير مرنة للعمل ستعمل على تشجيع المزيد من الأبوة والأمومة المشتركة. يقول الوزير أوغورا، الذي يدعم حزبه المحافظ، الحاكم للبلاد منذ فترة طويلة، القيم العائلية التقليدية: "إن الاتجاه الأساسي لاجراءاتنا لمعالجة انخفاض المواليد هو عكس اتجاه انخفاض المواليد من خلال دعم سعي الأفراد لتحقيق السعادة."
قد تمثل الاجراءات الحكومية الجديدة حلا مؤقتا لبعض العائلات، لكنها تترك الأعراف الصارمة المتعلّقة بالجنسين في اليابان بلا معالجة؛ كما أنه ليس من الواضح ما إذا كان بإمكان الاجراءات أن توفر بشكل فعّال للأم العاملة المزيد من مصدرها الأهم، وهو الوقت، الذي تقضيه عادة مع الأطفال، ناهيك عن الآباء والأصهار أيضا.
ومع كونهم يمثلون ثلث السكان تقريبا، يعد كبار السن قوة ينبغي وضعها في الحسبان ضمن النظام الديمقراطي الياباني.
وتقول "إيرين مورفي"، الباحثة في مركز الإستراتيجية والدراسات الدولية: "تتقدّم اليابان بنحو عشرين سنة تقريبا على الدول الأخرى التي تمر بالوضع نفسه. واليابانيون يؤسسون لقاعدة ما يجب فعله وما لا يجب فعله. النساء اليابانيات في نفس قارب النساء الكوريات الجنوبيات، اللواتي كن أكثر صراحة حول قضايا مثل رعاية الأطفال وإجازة الأمومة. المسألة الأخرى هي علاج تردد الخصوبة للنساء اللواتي يرغبن في تأخير إنجاب الأطفال مقابل تطوير وضعهن المهني، إنه أمر باهظ الثمن وخالف للطبيعة البشرية. وكانت
ردود الحكومة تجاه هذه القضايا المهمة
باهتة."

البحث عن حلول
وتواصل مورفي حديثها: "سوق العمل لا يرحب بعودة النساء بعد انجابهن. فهناك توقع كبير ببقائهن في المنزل. مع اعباء رعاية الأطفال والمنزل بالإضافة إلى وظيفة بدوام كامل، إذا كن قادرات على الاحتفاظ بها. كما إن هناك عددا قليلا جدا من النساء في أروقة السلطة لتشريع القوانين."
وتشير توجهات صانعي السياسة المحافظين والجمهور من أن اليابان على الأرجح عليها البحث بشكل متزايد عن حلول داخلية، وليست خارجية، للأزمة الديموغرافية، برغم التوقعات التي تشير إلى حتمية المزيد من الهجرة. تقول "ساواكو شيراهاس"، استاذة علم الاجتماع في جامعة طوكيو: "ينفي البعض وجود مشكلة في انخفاض معدل الخصوبة، لا بأس إذا اختار الناس هذا الخيار، ولكن النقطة المهمة هي أن غالبية الشباب يرغبون في الزواج وتكوين أسرة جديدة وإنجاب الأطفال، ولكن عليهم إجراء توازن."
وتضيف الباحثة قائلة: "لدى اليابان تاريخ غريب يتعلّق بسياسة الهجرة، ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، نجحت البلاد بتحقيق نمو اقتصادي من دون مهاجرين جدد، وأصبحت أول دولة آسيوية تحقق التصنيع بتقسيم معتدل للغاية للعمل. لكن الحال لم يكن قابلا للاستمرار بسبب عدم القدرة على التنسيق بين الأدوار المختلفة ضمن نفس أفراد المجتمع في نفس الوقت. هذا النموذج فعّال للغاية في فترة زمنية قصيرة جدا، لكنه لا يدوم طويلا. تحصل النساء على تعليم عال ولديهن المزيد من الخيارات، ولكن في الواقع تكون خياراتهن محدودة عندما يتعيّن عليهن الاختيار بين العمل والأسرة."

يابان الغد
تمثّل المشكلات الهيكلية للسكان تحديا لأي قائد لحلها، لكن التداعيات المستقبلية سيتحمّلها الجميع. ولم يمض وقت طويل حتى تغلغل التهديد الملحوظ للازدهار الصناعي الياباني في الثقافة الشعبية الاميركية، قبل أن تعمل مرحلة ما بعد الحرب الباردة على تهدئة المشاعر المعادية لليابان. ومن المؤكد أن التوقعات الديموغرافية القاتمة حاليا
تهدد مكانة اليابان كثالث أكبر اقتصاد في العالم.
وقدّم معهد "أعمال المتطوّعين" في آذار الماضي تقييما خطرا  لنقص العمالة، حيث سيتجاوز 11 مليون عامل بحلول العام 2040. ومع ذلك، ومع نهاية هذا العقد، ستواجه اليابان أولا أزمة لوجستية يمكن أن تؤثر ببقاء أكثر من ثلث حمولات الشحن بلا تسليم، بسبب لوائح العمل الإضافي الجديدة المفترض البدء بتطبيقها العام المقبل، وفقا لدراسة أجراها معهد نومورا للأبحاث مطلع العام الحالي.
تقول مورفي: "يمكن أن يكون التأثير الاقتصادي شديدا للغاية، وسيكون مصدر القلق الرئيسي هو تقلّص القاعدة الضريبية التي تساهم في إدارة الخدمات الحكومية. هذا الحال يثير تساؤلات حول أنواع القرارات التي يجب إتخاذها بشأن التكاليف الإدارية. تقدم اليابان مثالا مثيرا للاهتمام لدولة مناهضة للهجرة إلى حد كبير، ويبدو أنه من غير المرجح أن تتبنى هذه الفرصة. بالتالي، كيف يمكنك تخصيص الموارد؟ كيف يمكنك الاستمرار في الأعمال التجارية عندما لا تكون هناك قاعدة عملاء؟ كيف تنشئ قاعدة ضرائب لدعم النقل العام وتمويل الرعاية الصحية الوطنية؟ وكيف تعتني بالمسنين؟"

أبعاد عسكرية
وأعلن رئيس الوزراء "فوميو كيشيدا" شهر كانون الثاني الماضي أنه لم يعد بالأمكان تأجيل إنشاء مجتمع "الأطفال أولا". وأشار إلى "أن اليابان على شفير امكانية الاستمرار في تأدية مهماتنا كمجتمع." الولايات المتحدة، التي تعد اليابان أحد أهم حلفائها، لديها أيضا مصلحة في ما إذا كان قادة اليابان على صواب، وسيكون لمسار القوى البشرية اليابانية تداعيات على الأمن القومي لكلا العاصمتين مع عملهما سوية لمواجهة الصين المتزايدة القوة، ولاجل ذلك التزمت طوكيو مسبقا بتعزيز انتاج السلاح لفترة من المقرر أن تدوم لعقود. "سيتعيّن على اليابان معرفة شكل صناعتها العسكرية. هل تعتمد على الموارد البشرية أم التقنية؟ هذا سؤال يواجهه حلفاء الولايات المتحدة الآخرون أيضا، وهو يمثل كذلك نقاشا حول ماهية شكل الحروب مستقبلا." بحسب مورفي.
يتم دمج تقلّص السكان ضمن التخطيط الدفاعي لليابان. وفي وثيقة معلوماتية صدرت العام الماضي، وصفت وزارة الدفاع اليابانية هذا الحال بأنه "تحد وشيك" لاستدامة ومرونة قوات الدفاع اليابانية، التي سيتعيّن عليها تعويض الأعداد المتضائلة من خلال امتلاك المزيد من الأنظمة ذاتية التشغيل وغير المأهولة بينما يتم إيقاف تشغيل الآليات "المنخفضة الفعالية من حيث التكلفة."
وفي مبادرة لامتلاك جيش "يتكيّف مع العصر والبيئة"، قالت الوزارة إنها ستستغل أكبر الموارد البشرية اليابانية غير المستغلّة لغاية الآن: النساء. وقالت الوثيقة ان المجنّدات يمثّلن نسبة ثمانية بالمئة من مجمل الكادر في آذار 2022. وكان هدف الوزارة منذ العام 2021 هو ضمان وصول نسبة المجندات إلى 35 بالمئة من العدد الكلي للجيش.
وتقول شيراهاس ببقاء الحكومة اليابانية مسؤولة في المقام الأول عن الاتجاه الديموغرافي. وسيتطلّب العثور على الإجابة الصحيحة قيادة قوية ورغبة في إنفاق رأس المال السياسي لاشراك جميع أصحاب المصلحة المعنيين. "هذه قضية مركزية تخص المجتمع، ويجب علينا إضافة قيمة مشتركة أخرى لإحداث التغيير، وأن نشارك جميعا في رعاية الأجيال القادمة. علينا إقناع الجيل الأكبر سنا أو جيل العمل بأن المساعدة المتبادلة بين الأجيال تعد مسألة حيوية لديمومة حياتنا. ويعد هذا نقاشا فكريا غاية في الأهمية، والتعليم يمثل الأداة الأخيرة."

مجلة نيوزويك الأميركية