هواجس على جنبات دمشق ورواتهــا وأحلامــهــا

منصة 2023/06/25
...

   دمشق: علي العقباني

{ما وصفت الجنة بشيء إلا وفي دمشق مثله}.

 ياقوت الحموي في معجم البلدان

{وأما دمشق فهي جنة المشرق، ومطلع نورها المشرق، وخاتمة بلاد الإسلام متى استقريناها، وعروس المدن التي اجتلبناها. قد تحلت بأزاهير الرياحين، وتجلّت في حللٍ سندسيَّة من البساتين، وحلت موضع الحسن بالمكان المكين، وتزينت في منصتها أجمل تزيين}.

ابن جبير

يكتب عشاقها القريبون منها والبعيدون متغزلين متغنين بتاريخها وشوارعها وياسمينها المعرش على الجدران، بقاسيون المطل عليها، يكتبون القصائد والمعلقات، إنَّهم يرونها من علٍّ من عليائهم، من أحلامهم، من حنينهم، وفي الأغلب هم لم يلمسوا حجارتها، لم يمشوا حفاة القدمين فوق أرصفتها، أو عراة الروح في حواريها، أو عشاقاً في أزقتها، لا يعرفون نجوم أبوابها السبعة، ولا من دخل منها وخرج ولا الكواكب التي تحوم حولها كل مساء، لم يُقبلوا حبيباتهم تحت قنطرة باب شرقي، ولم يقرؤوا على أبوابها ما كُتب من حب وحنين ووجع، لا يعرفون تل الحجارة وطالع الفضة وحنانيا والقيمرية والعمارة والميدان والسويقة وباب السريجة وسوق ساروجة، ومقبرة باب الصغير، وباب الجابية وحارة اليهود ومقابر الأولياء الصالحين والشعراء والمتصوفة والعلماء، لم يصعدوا إلى جبل الأربعين ولم يزوروا مولانا الشيخ محيي الدين بن عربي، لم يذهبوا إلى شارع العابد ويشربوا القهوة أو الشاي في مقهى الروضة مع الأركيلة والصخب والطاولة، أو ينزلوا حيث مقهى الكمال أو مقهى الشرق الأوسط أو القلعة، وربما لم يطيروا حمامات المرجة وهم ينظرون إلى قصر يلدز، ولم يرقبوا شارع الميدان وقد قسمته الحارات بأسمائها وحلوياتها وأرصفتها وازدحامها ومطاعمها التي تبتدئ بالمقادم ولا تنتهي بالفول على رصيف تشهى البشر في سكناتهم وحواراتهم، أو لم يرفعوا رؤوسهم وهم ينظرون مقرنصات كنيسة الزيتون، وأين اختفى القديس حنانيا ولا من أين عبر القديس بولس الرسول ولم يزوروا المسكية واشتروا كتاباً أو بخورا أو عبروا إلى الكلاسة والجقمقية والجامع الأموي ومقهى النوفرة وبوظة بكداش.. و... و.. ولم يشربوا من أسبلتها ماءً سلسبيلا، ويغسلوا وجوههم بمائها وحنانها..

أمكنة سياحية يشاهدونها عبر شاشاتهم نوستالجيا، حنيناً مرضياً لمكان مشتهى، مكاناً في الخيال، في الحكايات والكتب وأمسيات كانون، لا يتحدثون عن الوجوه المتعبة، ولا عن تفاصيل الهروب اليومي من الموت إلى الحياة في أحد مداخلها، الخراب الذي عمَّ الأرواح والأجساد، الخوف الذي يعرش على القلوب ويعشعش في الخلايا، صدىً لأهزوجة الموت العبثي بقذيفة هاون أو طلقة قناص لا فرق، هروباً من الجوع أو الانتظار أو الألم، من وجوه أهلها الكالحة تعباً وصبراً.

مدينة تحرض على الكتابة والحياة والحب، عليها أن تقتل الموت لتعود إليها الروح.


هل سيقول الجواهري مرة ثانية:

شَمَمْتُ تُرْبَكِ لا زُلْفى ولا مَلَقا

وسِرْتُ قَصْدَكِ لا خِبّاً، ولا مَذِقا

وسِرْتُ قَصْدَكِ لا كالمُشْتَهي هما

فَجْرٌ على الغَدِ مِن أَمْسَيْهِما انْبَثَقا

أم هل سيعود نزار قباني ليقول من جديد:

هذي دمشق.. وهذي الكأس والراح إني أحب.. وبعض الحب ذباح

أنا الدمشقي.. لو شرحتم جسدي لسال منه عناقيد... وتفاح

مآذن الشام تبكي إذ تعانقني ولمآذن.. كالأشجار.. أرواح

للياسمين حقوق في منازلنا وقطة البيت تغفو حيث ترتاح

رواية المدينة التي كتب عنها عشرات الكتب المؤرخة والمؤرشفة والفاتحة أبواب حارات خيالية، رواية لم تكتب بعد، رواية تلامس جنباتها ولا تغرق بهاـ رواية حنين ووجع وأمنيات، رواية من حكايات الجدات والانس والجان، رواية تحسب أنها تكتب مدينة، فتجد أنَّ المدينة هي رواية الرواة التي لم ترو بعد، فلا ابن عساكر ولا البديري الحلاق، ولا من جاء بعدهما كتب المدينة كما تشتهي حجارتها وصرير المياه على مزاريب حيطانها، ولا خرارات مياه بحراتها وغرفة المونة وما خلف الأبواب وخلف الأسوار وتحت الأرض من بكاء ووجع وأحلام مضهجة، مدينة بلا بارات ولا مجانين ولا مدمني خمر وحب وتسكع وجنون وفن ونساء، يراقصن عنان السماء بفساتينهنَّ وبأصوات نعالهنَّ على الأرض، مدينة إلى أفول.

ماذا سنقول لياقوت وابن جبير اليوم.. في أي زمان ومكان كتبتما ذلك؟